التقدير المشترك!

 

إن أحد الباحثين توصل إلى نظرية تقول (إذا التقيت بشخص لم تره منذ ثلاثة أيام ففكر سبع مرات قبل أن تكلمه لأنه قد تغير خمس مرات على الأقل)، وهذه قاعده نستطيع أن نستفيد منها في الحياة العامة ناهيك عن الجانب التربوي، لأننا أحياناً نظن أن ذلك الصديق الذي كنت معه في أيام الدراسه مثلاً هو نفسه اليوم بأفكاره وأسلوبه وأمانتـه، والإشكالية أنني أتعامل معه بهذه العقلية القديمـه، فهذا المثال قد ينطبق على من يـرى أن عقارب الساعة واقفة وهى في الحقيقة تتحرك شيئاً فشيئا، وهكذا نتعامل مع أبنائنا الصغار دائماً ما يغمرنا الشعور بأن أبنائنا كما هو صغاراً وفي الحقيقة هم ليسوا صغـار بخاصة هذه الأيـام، إن التطور السريع التي يمر فيه المجتمع ليس في الجانب الصناعي فقط ولا العمراني وإنما كذلك تطور في عقليات وذكاء وفهـم أبنائنا، إذن الواجب علينا أن نعي هذا الأمـر وأن نركب مع أبنائنا موجة التطور السريعة وأن نفهـم ذوات هذا الجيل وكيف يفكـر وفي ماذا يفكر حتى نستطيع أن نتواصل معـه إلى بـر الأمـان.



 

إن الخطأ الفادح الذي يرتكبه بعض الآبـاء عندما يبدأون بسياسة تربوية جميلة وصحيحة ويواصلون هذه السياسة ولا يعملون حسابات التغير الذي حدث لدى الابن، إن الابن في حاجة إلى شعور معين في سن معين، فعلى سبيل المثال حاجة الابن إلى تقدير ذاته، وهى من خصائص التسع سنوات ويسمى التربويين مرحلة الاستقلاليـة، فيحتاج منا إلى دعم حقيقي وتقديـر لأفكـاره وأعماله، فإذا لم يجد هذا التقدير خاصة في هذا السن تحديداً فإننا كما ذكر الإمام الغزالي (وكما أن البدن فى الابتداء لا يخلق كاملاً وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربية بالغذاء فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم، والصبى مهما أهمل فى ابتداء نشوئه خرج فى الأغلب ردئ الأخلاق كذابًا حسودًا سروقًا نمامًا لحوحًا ذا فضول وضحك وكياد ومجانة وإنما يحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب).

    

فعندما نتكلم عن التقدير الذاتي فهذا أساس من أساسيات التربيـة ولنكن صريحين، إذا كان الأب أو الأم أو المربي لا يمتلك تقديراً ذاتياً لنفسه لا يمكن أبداً أن يربي أطفالاً متميزين ومتفوقين وناجحـين. فعندما نبرمج أطفالنا على البكاء لامتلاك شيء مـا، فعلى ماذا نربيهم؟ وعندما نعلمهم على الضـرب ورفع الأصوات فعلى ماذا نربيهـم وعندما لا يحترم الأب الأم أمامهـم فعلى ماذا نربيهـم؟ وعندما لا يوقر الكبـير في البيت فعلى ماذا نربيهـم؟ إن تقدير الذات هو جانب عملـي أكثر مما هو جانب كلام منمق وجميـل، إن تقدير الذات الذي نصنعه داخل الأسرة من خلاله نصنع رجالاً يمتلئون ثقة بآرائهم وبأفعالهم فتجدهم دائماً في المقدمة لأننا زرعنا فيهم هذه الثقة التي يفقدها بعض الأطفال هذه الأيـام. وهنا نتذكر سلف هذه الأمة كيف كانوا يربون أبنائهم على الثقة بالنفس حتى يصل الحال بغلام في الحادية عشرة من عمره بأن يوضع في صف مجلس الشـوري الإسلامي الذي يضم كبار الصحابة أو كما نقول هذه الأيام (كبار رجالات البلد) في عهد سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه، ألا وهو ذلك الفتى الغـلام عبدالله بن عبـاس – رضي الله عنه، إن هذه الثقة التي أعطيت لهذا الغلام الصغير لم تأتي من فراغ وكانت هى المكملـة ليكون أحد أحبار هذه الأمـة، هذا نمـوذج علينا أن نحتذي به لنربي رجالاً يتركون بصمة في التاريخ، فلعل هناك متشائم يقول كيف هذا ونحن في هذا الزمن الذي كثرت فيه المشغوليات وأصبح الإنسان لا يكاد يرى أبناؤه إلا نياماً، فأقول نعم إن الزمن الذي نعيش فيه إنما هو سلاح ذو حدين إننا في زمن استطعنا أن نروض الحيوانات المفترسة بل والأسمـاك في البحـار أفلا نستطيع أن نروض عقول وشخصيات أبنائنا حتى يكونوا متميزين محترمين لأنفسهم.

 

علينا أن نعلم أن أول مبرمج للابن هم الوالدان فالابن في بداية حياته لا يبصر ولا يرى إلا والديه فالقبيح ما استقبحوا والحسن ما استحسنوه ويمضي في حياته بهذا القانون الأبوي الجميل الذي تعلمه منهـم ثم تأتي بعد ذلك برمجة المدرسون، ورسالتي هنا لكل مدرس ومربي أنك القدوة أمام هذا الطالب فتعيش معه أكثر مما يعيش والده معه فليرى منك القدوة الحسنة، فكم من أناس نجحوا في الحياة وانطلقوا في الآفاق وليس ذلك الا بسبب كلمة أطلقها ذلك المربي إلى شعور ذلك الطالب مما جعله يمتلىء ثقة بنفسه فحطم الحواجز وحقق الأهداف ولا ننسى أيضاً أن الإخوة في البيت الواحد يساعدون على هذه البرمجة وكذلك الأصدقاء.

  

 

ومن السلبيات التي يجب أن يحذر منها الوالدين أو المربون عموماً هـو:

   (1) النقـد: فمن الآباء من لا يعرف إلا النقد اللاذع سواءاً لأبنائه أو لزوجته وهو بذلك يظن بأن هذا النقد يسبب دافعية لدى الآخر وهذا مفهوم خاطىء، إن النقد لا يسبب إلا التأفف منك أولاً ثم من العمل ثانياً، فيكره الابن أي عمل مصدره الأب.

   (2) المقارنة: إن المقارنة السلبية التي تحدث بين الأقران غالباً لا تكون موفقة، ومن أراد أن يقارن فليقارن بين ابنه وبين كبار العلماء أو من سبقوه من أهل المكانة أو الوجاهه حتى يشحذ همتـه في الوصول والإقتـداء.

 

وكذلك من الأمور السلبية السخرية وعدم الإنصات ورفع الأصوات والصراخ في وجه الابن، كل هذه الأمور تسبب هدم في تقدير الذات خاصة عند الصغار.

 

فعلينا أن نحول هذه السلبيات إلى مهارات أخرى نتعلم من خلالها كيف نعزز التقدير الذاتي لدى أبنائنا، ومن ثمرات هذه المهـارة هى الثقة والاعتماد على النفس، وهذه الصفة من أجمل الصفات التي يمكن يتصف بها أبنائنا لأنها صفة ملازمة لنا في الحياة بشكل عـام، وكذلك المبـادرة والإقدام لا يكونان إلا من التقدير الذاتي الصحيح للنفس، وهنا أقول الصحيح المعتدل لأنه يفترض أن يكون التقدير الذاتي وسط فلا إفراط ولا تفريط، مواجهة المشكلات وحلهـا. إن هذه الصفات مكتسبة فمن أراد لابنه صفة طيبة فعليه أن يكتسبها هو أولاً فيكون مقدراً ذاته محترماً لهـا ومقدراً لمن حوله فسرعان ما تجد هذه الصفة تنتقل منه إلى الأسرة بكاملهـا والعكس بالعكس.

 

نحن نلاحظ أحيانا منذ السنوات الأولى للطفل عندما يبدأ بالاعتماد على نفسه فيمنعه الأب وتمنعه الأم أحياناً بدعوى الخوف عليـه وحمايته، مثل الأكل.. هو يريد أن يأكل بنفسه والدافع في ذلك الاعتماد على النفس، والأم ومن باب إما الخوف أو المحافظة على النظافـة تجهـل هذه البرمجة الموجوده عند الطفل والذي يريد أن ينميها فتوقفها عند هذا الحـد، وهنـا تهتز ثقة الطفل بنفسه.