التعارف وحل مشكلة المصاحبة

 

(1) هل يختلف معي أحد لو قلت إنّ الزمان تغير، وإنّ ما كان يصلح في الأمس بدرجة 100% ربما يصلح اليوم بدرجة 70% مثلاً أو ربما أقل؟ إنّ هذه هي طبيعة الأمور في كل ما يقبل التغيير والتطور، أمّا الثوابت فتظل على ما هي عليه إلى قيام الساعة! ومحاولة الاقتراب منها- مجرد الاقتراب- للتغيير فيها لن تؤدي إلى أي تطور، بل ستؤدي إلى التخلف والضياع!



 

ولنأخذ مثالاً بسيطاً على ذلك يوضح هذه القاعدة وهو زِيّ الإنسان! إنّ الثابت في زِي الإنسان ولباسه عندنا نحن المسلمين أنّه لا بد أنْ يُغطي عوراته كلها، أما المتغير فيه فهو مِمَّا يكون؟ هل يكون من القطن أم من الصوف أم من غيرهما؟ وما لونه؟ هل يكون أبيض أم أسود أم ملوناً؟ وما شكله، هل يكون جلباباً أم عباءة، أم قفطاناً أم غير ذلك مما لا بأس ولا حرمانية فيه؟ وهناك فرق كبير جداً بين دعوى تقترب من الثابت وتحاول أن تلغيه أو تنزعه تحت دعوى العصرية، وبين دعوى أخرى تعمد إلى المتغير فيه وتحاول أن تقلبهم على وجه أنسب وأكثر ملائمة للظروف التي نواجهها، وللعصر الذي نحياه!

فالدعوى الأولى دعوة إلى الإباحية، أما الثانية فهي دعوة إلى العصرية، وشتان بينهما! إن هذه القضية التي أُسقطها على تقنية زِي الإنسان تنفع للإسقاط على أغلبية قضايا الحياة، فأغلبية القضايا فيها ثوابت ومتغيرات ومن المهم جداً إذا أردنا نهضة راشدة متصلة بالسماء ومعمرة للأرض أن نصنف بشكل واضح ومحدد المعالم ما هو الثابت الذي نفخر به ولا نحيد عنه قَيْد أُنْمُلة، وما هو المتغير الذي نكيفه بما يناسب المرحلة التي نحياها، والذي لا يكون في تكييفنا له على نحو ما حرام أو حتى شبهة حرام!

تعالوا الآن نطبق هذه القاعدة على الموضوع الذي نحن بصدده والذي أكتب فيه وهو موضوع مقالي هذا الرابع "التعارف بين الشاب والشابة" قبل الزواج، والذي انتهيت فيه في مقال سابق إلى أنّني أوافق عليه كمبدأ في الوقت نفسه الذي أرفض تطبيقاته المشاهدة كلها والمجموعة تحت عنوان "المصاحبة بين الولد والبنت أو الشاب والشابة!..

منذ وقت غير بعيد كان من السهل على الشاب أن يتوقع أن يتعرف على أخلاق البنت من سيرة أبيها وأمها إذ إنّهما كانا وحدهما إلى حد كبير العنصرين المؤثرين في تربية أبنائهما، وكانت الأمور واضحة والاستنباط منها سهلاً، وكان الأكثر شيوعاً والأعم. أن نجد البنت شبيهة بأمها في سلوكها. وطريقة تفكيرها إلى درجة كبيرة تكاد تكون متطابقة، وكان من السهل على أم الشاب وأبيه بزيارتهما لأهل البنت أن يتبينا تركيبتها النفسية ومزاجها الذهني، حتى ولو لم يرياها هي بنفسها، وكان هذا الاستنباط منطقياً، وكذلك مضموناً إلى حد كبير! وبناء على ذلك كان الواحد منّا يسمع أنّه بمجرد تعارف العائلتين وزيارة بعضهما بعضاً عدة زيارات لا تزيد على عدد أصابع اليدين، تتفقان على العقد ويتم الزواج بسرعة، ولا تكون ثمة مشكلات أو مفاجآت عاصفة كتلك التي تحدث اليوم!

فاليوم، لابد أن نعترف بأن الأمور أصبحت أكثر غموضاً وضبابية، فلم يعد الأبوان هما العنصران المؤثران بالشكل الذي كانا عليه سالفاً، خصوصاً بعد خروج المرأة للعمل، واشتراك عناصر أخرى بالغة الخطورة في التأثير في الأبناء منها:

المربية التي أصبحت مكان الأم والتلفاز، والقنوات الفضائية، والإنترنت، والأصدقاء الذين كانوا بالأمس ينتقون للأبناء وأصبحوا اليوم يفرضون على الآباء، وغير ذلك من التغيرات الأخرى المؤثرة سواء الاجتماعية كالطلاق الذي زاد بشكل مرضي والذي يؤثر في الأبناء، أو تلك الاقتصادية التي سلبت من الرجل أبوته، ورجولته وحولته إلى مجرد ممول اقتصادي لمجموعة أفراد يعيشون جميعاً تحت سقف واحد في الوقت الذي يفتقدون فيه أي تواصل نفسي.

إنّ كل هذه العناصر وغيرها لابد من الالتفات إليها وتدبرها وإعطائها حقها من التفكير قبل الإقدام على الزواج، حتى يكون زواجاً ناجحاً، قائماً على أسس متينة غير واهية، تحفظه من التصدع في أقصر وقت وتحت وطأة أخف المشكلات! هذا بجانب التركيبات النفسية التي أصبحت غير منطقية نتيجة للظروف التي ذكرتها وتلك التي لا يتسع المجال لذكرها، أرى أنّ هذه التغيرات كلها تستوجب تعارفاً دقيقاً متأنياً غير متسرع أو متهور، حتى لا نزيد الطين بله وينتهي الزواج بالطلاق!

 
ولا أريد أن يساء بي الظن، ويقال إنّني فتحت باباً خلفياً للمصاحبة وإنّني أدعو إلى مفسدة! أبداً، غاية ما أريد أن نأتي على المرحلة التي تسمى التعارف وأن نعطيها وقتها أكثر مما كنّا نفعل من قبل ملتزمين فيها بكل آداب الشرع، وأن تكون المرحلة في ضوء النهار بين الشاب والشابة بوجود عائلتيهما، وتحت سمعهم وبصرهم عن طريق زيارة كل عائلة للعائلة الأخرى في بيتها وأن تبدأ هذه المرحلة عندما يكون الشاب قادراً فعلاً على الزواج وليس قبله بسنين أو حتى سنة، والموضوع نقسه بالنسبة للفتاة، وأن يكون الهدف من هذه المرحلة هو الوصول إلى اتخاذ قرار أولي بالبدء في المضي في خطوات الزواج (ومنها الخِطبة) أو صرف النظر عنها. هل يفهم من كلامي هذا أنّني شجعت التعارف قبل الخطبة وجعلته مرحلة سابقة لها؟ نعم..ولِمَ لا؟ إذا لم يكن ذلك حراماً، ومن شأنه أن يشجع الناس على الحلال وطرق البيوت من أبوابها.

إنّ الناس يقلقون من الذي يدفعهم إلى الرسميات دون تمهيد فيلجئون إلى الأبواب الخلفية حتى وإن كانت حراماً أو فيها شبهة حرام، ونحن نريد للناس ألا يخافوا الحلال وأن يألفوه.. إن التعارف بهذا الشكل شيء ميسر وصورة اجتماعية لا تُبنى عليها أي واجبات أو حقوق شرعية لطرف على آخر تمثل قيداً مكبلاً.

(2) وبعد أن تطرقت إلى موضوع المصاحبة التي نراها اليوم بين الولد والبنت وذكرت أنّني أرفضها، ووضحت أسباب رفضي، كما أعلنت أنّني مع التعارف المتأني الدقيق بين الشاب وعائلته والفتاة وعائلتها قبل الزواج، أو حتى الخطبة ووضحت بعض الأسباب التي دعتني إلى تبني وجهة النظر هذه، سأزيد الأمر إيضاحاً، وأُفَصل في الحل بإذن الله تعالى:

 

أولاً: لِمَ ذهبت إلى أنّه لا بأس من التعارف الذي يراعي حدود الله قبل الخِطبة؟ لأنّ الخِطبة ومعناها شرعاً ومن قبله لغة طلب المرأة للزواج، والخِطبة بهذا المعنى درجة ونوع من أنواع الارتباط، الذي تترتب عليه عدة أمور نفسية، ومعنوية، ومادية على الفتاة وأهلها وعلى الشاب وأهله، فهي خطوة متقدمة لا بد أن تسبقها خطوات مدروسة يؤدي إليها حتى يتسنى لها النجاح! إن الذين يتسرعون في يومنا هذا في إتمام الخِطبة قبل التعارف الدقيق لا يُعجلون بالفرحة والبهجة والسرور بقدر ما يسلكون مسلكاً غير مأمون العواقب، والبنت التي يستهويها لقب مخطوبة على حساب من هو خطيبها، بنت لا بد أن تُنصح حتى لا تؤذي نفسها، إنّ مجتمعاتنا مجتمعات حساسة للعلاقات الإنسانية وخاصة فيما يتعلق بالزواج، فكم رجلاً في مجتمعاتنا يمكن أن يتقدم لمطلقة ويتزوجها كأول زوجة؟ أعتقد أنّ عددهم قليل، وكذلك بالنسبة لمن كانت مخطوبة وفسخت خطبتها مرتين أو ثلاث مرات، صحيح أنّ وضعها ليس حساساً كالمطلقة لكن يبقى أن وضعها ليس كمن لم تخطب وتفسخ خطبتها. إنّني هنا لست معنياً باستقراء الأسباب التي أدت إلى مثل هذا المنطق في الاختيار لكنّني أوضح واقعاً أعتقد أنّه لا يختلف معي عليه كثير من حضراتكم.

هل معنى ذلك أنّني أدعو إلى ما يدعو إليه من لا يتقيد بشرع أو يراعي لله حرمة، من الذين يُروجون بما يسمى المصاحبة اليوم بين الولد والبنت والتي تستمر سنين سيفعلان فيها ما لا يرضي الله ورسوله؟ أبداً، وأعوذ بالله من أن يفهم كلامي هكذا، إنّني لا أدعو إلى أي تسويف غير مبرر في الانتقال في موضوع الزواج من مرحلة إلى أخرى، لكنّني أشترط أن تحقق كل مرحلة هدفها الذي أقرّه الشرع.

ولا شرط هنا في الفترة الزمنية التي تستقطعها كل مرحلة، فقد يرى شاب شابة فيقع قبولها في قلبه، فيعلم وليها عن طريق له صلة بها أنّه يريد وعائلته أن يتعارفا ويبدأ التعارف، ويشعر الطرفان الشاب وعائلته والفتاة وعائلتها بأنّهما متلائمان، فينتقلان إلى الخِطبة وتسير الأمور سيراً طيباً حسناً في الخِطبة، حتى لا يجدا ما يمنع الزواج، فيكتب الكتاب ويتزوجان.

كل ذلك في غضون عدة أشهر لا أكثر ويكون هذا الزواج بإذن الله زواجاً مباركاً وناجحاً، ولا غضاضة في ذلك، كما أنّه لا غضاضة في أن تطول فترة كل مرحلة من هذه المراحل، إذا كان هناك ما يستدعي ذلك، مما تظهره المواقف والأيام بين الطرفين وعائلتيهما، إنّ إنهاء العلاقة في مرحلة التعارف – إذا كان هناك ما يستدعي ذلك - أهون بكثير جداً من إنهائها بعد كتب الكتاب، حتى أنّ إنهاء العلاقة بعد كتب الكتاب أهون بكثير جداً من إنهائها بعد الزواج والحمل والأولاد.

إنّني لا أريد أن يُفهم من كلامي أنّني أدفع إلى الوسوسة والارتياب والشك أو التعامل مع الموضوع على أنّه شرك لا بد أن يأخذ الإنسان حذره حتى لا يسقط فيه، إنّني لا أريد أن أطفئ فرحة التفكير والسعي إلى الزواج، والارتباط بشريك العمر، على قدر ما أريد أن أنصح أمتي بالخير، فكثرة المشكلات المتعلقة بهذا الموضوع والتي تطرق سمع أذن الواحد منّا، وارتفاع نسب الطلاق بشكل ليس طبيعياً دفعاني لهذا الحرص على النصح.

ولقد أنف العرب من الإسراع في عملية الزواج من غير روية ولا تفكير، وضربوا المثل بأم خارجة فقالوا: "أسرع من نكاح أم خارجة"، وهي عمرة بنت سعد، كان يأتيها الخاطب، فيقول: خاطب (يريد خطبتك) فتقول: ينكح، فيقول: انزلي (من فوق ناقتك) فتقول: انح دون الرجوع إلى الأهل! وعندما دخل أبو الدرداء وأبو هريرة على بنت معاوية بن أبي سفيان يخطبانها لعبد الله بن سلام القرشي قالت لهما: "جف القلم بما هو كائن، وإنّه في قريش لرفيع القدر وقد تعرفان أنّ الزواج جده جد، وهزله جد كذلك، والأناة في الأمور أوفق لما يخاف فيها من المحذور، فإنّ الأمور إذا جاءت خلاف الهوى بعد التأني فيها، كان المرء بحسن العزاء خليقاً وبالصبر عليها حقيقاً. وإنّي سائلة عنه حتى أعرف دخيلة خبره، ويصح لي بالذي أريد عمله من أمره.." أرأينا؟

ما رأيكم الآن لو أنهيت قولي بهذا، أي بما أتخيل أنّه مناسب لأن يكون أسلوباً للتعارف يتم قبل الخِطبة في حالة عدم المعرفة المسبقة بين الشاب والشابة وعائلتيهما؟ أفعل بأذن الله، وأرى أن يسأل أهل الشاب عن الفتاة، وكذلك يسأل أهل الفتاة عن الشاب، يزور الشاب ولي أمر الفتاة ويتحدث معه، تزور أم الشاب بيت الفتاة لرؤيتها والتعرف عليها وللتحدث معها ومع أهلها، تتم زيارات عائلية بين الأهلين وتنفرد أم هذا بأم هذه، ووالد هذا بوالد هذه، تخرج العائلتان مع بعضهما البعض للتعارف الأوثق ولكي تتاح فرصة لأن يتحدث الشاب مع الفتاة في وجود مَحْرَم بغير خلوة شرعية لكي يقف كل طرف على الملامح العامة لشخصية كل طرف..وهكذا.

هل هذا الذي ذكرته فيه شبهة حرام؟ لا، وكم يا ترى يستغرق وقت فترة التعارف بهذا الشكل الذي ذكرت؟ إنّها لن تستغرق أكثر من شهرين لو أنّ الزيارة تتم كل أسبوع! هل هذه الفترة طويلة جداً بحيث أنّها لا تجوز شرعاً وتعاب عرفاً؟ أعتقد لا، إنّها فترة أراها منطقية وعادية جداً لاتخاذ القرار..قرار المضي قدماً أو الاعتذار، الذي سيكون هنا سهلاً غير جارح أو مثير للمشكلات، بهذا التعارف الحلال نرد على من يقول: كيف أتقدم للزواج بمن لا أعرفها ولا تعرفني؟ وللحديث بإذن الله بقية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

أ.عمرو خالد لمجلة المرأة اليوم بتاريخ 17 أغسطس 2004