التربية وأشكالها، وإلى أي منهم تنتمي التربية الأسرية؟

هل تساءلت يوماً كيف تحافظ المجتمعات على وحدتها وتماسكها وطبيعتها المميزة عبر السنين؟ وكيف تنقل عاداتها وتقاليدها وقيمها وأهدافها من جيل إلى جيل؟ وهل فكرت في السبب الذي يجعل أبناء مجتمع ما متشابهين في سماتهم وسلوكاتهم وأهدافهم؟



التربية هي الأداة الفعالة التي تستخدمها المجتمعات في سبيل تحقيق ذلك؛ إذ تهدف التربية عموماً إلى صنع إنسان متكيف مع بيئته وقادر على التفاعل بشكل أمثل مع محيطه، فهي عملية تطبيع اجتماعي يعمل من خلالها المجتمع متمثلاً بمؤسساته المختلفة على تنشئة الصغار وصقلهم وتنمية توجهاتهم الأخلاقية والعقلية والاجتماعية والعلمية؛ لإكسابهم الصفات التي تتناسب مع طبيعة البيئة التي ينتمون إليها.

التربية كما يقول "جون ديوي" هي الحياة، وانطلاقاً من رؤيته تلك عرَّف التربية بأنَّها "مجموعة من العمليات التي يستطيع بها مجتمع أو مجموعة اجتماعية صغيرة أو كبيرة أن تنقل ثقافتها المكتسبة وأهدافها إلى أجيالها، بغية تأمين وجودها الخاص ونموها المستمر".

بذلك يمكننا القول إنَّ التربية ليست عملية بسيطة؛ بل هي عملية معقدة ومتعددة الجوانب والأهداف، ومن خلالها فقط يتم إعداد الأفراد وتنمية سلوكاتهم الإيجابية وبلورة أفكارهم لتحقيق أكبر قدر من الانسجام مع المجتمع، لكن بنفس الوقت العمل على تحسينه وتطويره.

فيما يخص التربية علينا أن نتأكد أنَّ يداً واحدة لا تصفق، وحتى نصل إلى إعداد الناشئة على أكمل وجه، يجب على الجهود أن تتضافر وتتكامل، ويجب على كل مؤسسة أن تقوم بواجباتها بالطريقة المثلى، ومن الطبيعي هنا أن نتساءل على أرض الواقع وبعيداً عن الكلام النظري مَن الذي يقوم بتربية أطفالنا؟ وما هي مسؤوليات وواجبات كل مؤسسة؟ ونحن بصفتنا أسرة ما هي وظيفتنا بالضبط؟

تقسم التربية إلى ثلاثة أنواع رئيسة هي: التربية النظامية والتربية اللانظامية وغير النظامية، فما هي وظائف ومجالات وسمات كل نوع من أنواع التربية؟ وإلى أي منهم تنتمي التربية الأسرية؟ هذا المقال مخصص للإجابة عن هذه التساؤلات، فتابعوا معنا.

ما هي التربية النظامية؟ وما هي وظائفها؟

التربية النظامية يمكن وصفها بدايةً بالتربية المقصودة؛ أي ذلك النوع من التربية الذي يجري في مؤسسات خاصة أهمها المدرسة، ولا تتم بصورة عفوية؛ بل بصورة منظمة، وتسعى إلى تحقيق أهداف معينة وفق خطط موضوعة بشكل مسبق اعتماداً على مناهج مدروسة ومناسبة لكل مرحلة عمرية، وعليه فإنَّ التربية التي يتلقاها الأطفال في هذا النوع هي تربية مقصودة ومحددة.

من هنا ينبع الدور الكبير للمدرسة بوصفها المؤسسة الأولى في المجتمع التي تقع على عاتقها مسؤولية إعداد الأجيال وتربيتهم وتنميتهم جسدياً واجتماعياً وعقلياً، ليصبحوا مؤهلين للعيش داخل هذا المجتمع والتفاعل معه.

تتدرج التربية النظامية وفقاً لمراحل متسلسلة ومتتابعة، ولكنَّها على الرغم من ذلك متكاملة ومتضافرة في سبيل تحقيق الأهداف المنشودة على أكمل وجه.

المدرسة هي النموذج الأولي لبيئة الطفل؛ إذ يتم إعدادها لتكون مناسبة ومؤهلة وقادرة على إحداث التغيير المطلوب في ميول الأطفال ورغباتهم، وكون المدرسة هي الممثل الأول للتربية النظامية يمكننا تحديد وظائف التربية النظامية من خلال وظائف المدرسة الأساسية.

إقرأ أيضاً: ما هي أساليب التربية الحديثة لبناء جيل مثقف؟

وظائف التربية النظامية:

توجد ثلاث وظائف أساسية للتربية النظامية وهي:

  1. تهيئة بيئة تعليمية مبسطة ومناسبة للناشئة، يتم فيها اختيار أهم نواحي ومجالات الحياة وتقديمها للتلاميذ بطريقة يمكنهم من خلالها إدراكها وفهمها والتفاعل معها، وعلى البيئة المدرسية أيضاً أن تقوم بتفكيك المركَّب الحضاري إلى أجزاء، وتناول كل جزء على حدة بشكل يتناسب مع المرحلة الدراسية التي ينتمي إليها التلميذ.
    لتحقيق ذلك على أكمل وجه، يجب على المدرسة اعتماد نظام متدرج ومتسلسل، وفي كل مرة يقوم الناشئ باستخدام ما تعلَّمه سابقاً بوصفه أداة لفهم واستيعاب ما هو أكثر تعقيداً، فمثلاً يمكن تعليم الطفل في الصف الأول عدم التحدث مع الغرباء دون الخوض في الأسباب الحقيقة لذلك، وفي الصف اللاحق تُذكر بعض الأسباب، وهكذا حتى يتشكل فهم واضح لديهم عن السلوك المناسب لهذا الموقف.
  2. من وظائف التربية النظامية أيضاً إنشاء بيئة صحية وسليمة، فمن غير المنطقي مثلاً أن تكون بيئة المدرسة التي ستكون بمنزلة مجتمع مصغَّر للتلميذ والنموذج الأولي للخارج بيئة موبوءة ومليئة بالعيوب والسلوكات الخاطئة التي تتعارض مع الأهداف العامة للتربية التي تتمحور حول بناء إنسان سليم جسدياً ونفسياً واجتماعياً.
    من الهام أيضاً التركيز في عملية التربية النظامية على استئصال العادات والتقاليد البالية التي تمنع أي تقدُّم وتقف في وجه أي تحضُّر من الممكن حصوله، فكما ذكرنا آنفاً فإنَّ التربية تسعى دائماً إلى تحسين المجتمع وتغييره نحو الأفضل.
  3. تحرير الفرد من قيود جماعته الضيقة التي ينتمي إليها، وإتاحة الفرصة له كي يندمج مع مجتمعه على نطاق أوسع وأشمل من خلال وجوده مع تلاميذ آخرين من مختلف الطبقات والأديان والانتماءات، وهذا ما يساعده حقيقةً على تقبل الاختلاف ويخلِّصه من الكثير من الأفكار الجامدة والمتخلفة التي قد تفرضها الأسرة.

مثلاً قد ينشأ طفل أبيض في أسرة عنصرية، ولنقل إنَّ هذه العنصرية موجهة ضد السود مثلاً، فعندما يخرج الطفل من عالم أسرته ويندمج في المدرسة مع تلاميذ مختلفين ويكتشفهم عن قرب، سيصبح أمر التخلص من تلك الأفكار البالية أكثر سهولة، وطبعاً هذا ما يحصل وفقاً لخطة ممنهجة تسعى المدرسة إلى تحقيقها.

شاهد بالفديو: 15 نصيحة للآباء في تربية الأبناء

ما هي التربية غير النظامية؟ وما هي مجالاتها؟

التربية غير النظامية تشترك مع التربية النظامية بنقطة واحدة فقط وهي أنَّها تتم داخل مؤسسات التعليم النظامي، لكن خارج أوقات الدوام الرسمي، ومن الممكن أيضاً أن تتم في مؤسسات خاصة، وتسمى غير نظامية لأنَّها لا تتقيد بنظام محدد؛ وإنَّما تتم على شكل دورات تختلف بطبيعتها وأهدافها ومدتها وحتى نوعية المنتسبين إليها.

يُعَدُّ هذا النوع مناسباً لغير المتفرغين، وقد انتشر كثيراً في النصف الثاني من القرن العشرين بسبب زيادة الحاجة إلى التعليم المستمر من جهة ولأنَّها من جهة أخرى رديفةٌ لعملية التربية النظامية.

مجالات التربية غير النظامية:

تتعدد مجالات التربية غير النظامية تبعاً للوظيفة التي تقوم بها، ويمكن أن تُقسم إلى المجالات الآتية:

1. الدورات التعليمية:

مثال عنها الدورات التي تُجرى لطلاب الشهادة الإعدادية أو الثانوية، أو دورات اللغة الأجنبية مثلاً، ويمكن أن تتم في المدارس أو في المعاهد الخاصة أو حتى المباني الحكومية.

2. الدورات التدريبية:

هي التي تقام بهدف تدريب العاملين في أثناء تأديتهم الخدمة، ويمكن أن تتم في مؤسسات خاصة أو أن تتبع لجهة رسمية.

3. الدورات التأهيلية:

تُقام قبل أن يباشر الفرد العمل في قطاع معين.

4. الدورات المهنية:

تتم في معاهد خاصة، ويكون القصد منها إما التدريب على حرفة معينة أو مساعدة الشخص على تطوير نفسه حتى يحصل على عمل أفضل، مثل دورات الحاسب.

لا بد من الإشارة هنا إلى أنَّ التربية في هذا النوع تأخذ طابعاً تعليمياً وتجديدياً، وتساهم برفع سوية اندماج الفرد مع بيئته من خلال مساعدته على تطوير خبراته ومواكبة أهم التغيرات التي تجري حوله.

شاهد بالفديو: 8 طرق تساعد بها طفلك لتطوير نفسه

ما هي التربية اللانظامية؟ وأين تتم؟

يمكن تحديد معنى التربية اللانظامية انطلاقاً من اسمها، فهي التربية التي تتم بصورة عفوية ودون تخطيط مسبق ودون الاعتماد على مناهج محددة بخلاف التربية النظامية، وتحدث من خلال تفاعل الطفل مع محيطه الاجتماعي منذ ولادته، ومن خلالها يكتسب الطفل السمات المميزة لبيئته بشكل مباشر أو غير مباشر.

على سبيل المثال، يمكن أن نعرف إلى أيَّة مدينة ينتمي شخص ما من خلال لهجته، هذه اللهجة التي تكوَّنت من خلال تفاعل الطفل مع بيئته خلال نشأته، كما أنَّ تفاعل الشخص مع المواقف المختلفة وكيفية تصرفه يدل أيضاً على البيئة التي جاء منها أو على الثقافة التي ينتمي إليها، فمن خلال التربية اللانظامية يكتسب الأفراد صفاتهم ومعارفهم وخبراتهم بصورة عفوية دون أي إلزام أو إجبار.

تجري عملية التربية اللانظامية في المؤسسات الاجتماعية التربوية، لكن غير المدرسية مثل الأسرة وجماعات الأقران ووسائل الإعلام وغيرها، وفيما يأتي سنتناول كل مؤسسة على حدة بشيء من التفصيل:

1. التربية الأسرية:

تندرج التربية الأسرية إذاً تحت مفهوم التربية اللانظامية، فهي تتم بصورة عفوية ودون منهاج محدد وثابت، وبذلك تختلف التربية التي يتلقاها الطفل من أسرة إلى أخرى، فالطفل يفتح عينيه ليجد نفسه داخل أسرة تتعهده وترعاه وتقدم له كل ما يحتاجه، وتكون بالنسبة إليه البيئة الاجتماعية الأولى التي يتعرف إلى العالم من خلالها.

من المعروف كمية التأثير الذي تُحدثه الأسرة في حياة الطفل، فمن خلالها تتشكل معالم شخصيته الأولى وتتحدد سماته الأساسية؛ إذ يتعلم الطفل في أسرته الحب والكراهية والعنصرية والتسامح والغيرة، فالطفل يتأثر جداً بالتربية التي يقدمها له والداه وبالظروف المختلفة التي تمر بها الأسرة، وهذا ما يحتِّم على الوالدين الاهتمام الكبير بجميع المراحل النمائية التي يمر بها الطفل وتعلُّم كيفية التعامل الصحيح معه.

لا يخفى على أحد أنَّ أساليب المعاملة الوالدية وخاصةً في السنوات الأولى من عمر الطفل الأساس الذي يُبنى عليه أي سلوك للطفل في المستقبل، فمثلاً الطفل الذي يعاني من الحرمان والعطف سيكون معرضاً أكثر من غيره لاضطرابات الشخصية، فقد يصبح جباناً أو نرجسياً أو عدائياً.

2. جماعات الأقران:

يخرج الطفل من نطاق أسرته إلى جماعة الأقران التي يجد فيها ملجأً اجتماعياً آخر لإشباع حاجاته ورغباته، ولا يقل تأثير جماعة الأقران في التربية وتشكيل شخصية الطفل عن الأسرة، فجماعة الأقران تسهم إسهاماً كبيراً في تحديد أنماط السلوك عند الأطفال وطرائق تعاطيهم مع المحيط الخارجي، فكم مرة لاحظنا أنَّ أطفالنا يغيرون سلوكاتهم تغييراً كبيراً عند وجودهم ضمن جماعة أقرانهم؟

حتى إنَّ بعض الأطفال قد يمتنعون عن تناول بعض أنواع الأطعمة وتحت تأثير جماعة أقرانهم يُقبلون عليها وسط دهشة الأهل واستغرابهم، وحقيقةً لا شيء يستدعي الاستغراب، ففردية الطفل تغيب ضمن جماعة أقرانه، فتجده يميل إلى محاكاة أنماط السلوك السائدة ليكسب رضى الجماعة وقبولها أولاً وليشعر بالانتماء إليهم، وبذلك لا يمكن إنكار الدور التربوي الكبير الذي تقوم به جماعة الأقران.

إقرأ أيضاً: التربية الحديثة: ضرورة أم بريستيج؟

3. وسائل الإعلام:

وسائل الإعلام اليوم إحدى الوسائل التربوية الهامة ولها تأثير قوي جداً في تربية الأطفال وتنشئتهم، حتى لو كان هذا التأثير مباشراً وموجَّهاً في كثير من الأحيان؛ إذ تتنوع الوسائل الإعلامية وتتعدد، فمنها المقروء والمكتوب والمسموع، وفي عصر التكنولوجيا أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تؤدي دوراً كبيراً أيضاً.

حقيقةً لا بد من زيادة الاهتمام بهذه الوسائل والتدقيق الأكبر على محتواها وخاصةً المحتوى الموجه للطفل، لتحقيق أكبر قدر من الاستفادة منها وليكون تأثيرها مكملاً وداعماً لمؤسسات التربية الأخرى.

على أرض الواقع نستطيع - بصفتنا أهلاً ببساطة - أن نلاحظ التأثير الكبير الذي تمارسه هذه الوسائل في أطفالنا، ونلاحظ ميلهم الشديد إلى تقليد سلوكات أبطالهم المفضلين، وهنا مربط الفرس، فيجب على هذه السلوكات أن تكون مدروسة وموجهة من قِبل صُنَّاع المحتوى.

في الختام:

القضية الأساسية التي تحرِّك أنظمة التربية الحديثة اليوم هي بناء الإنسان وتشكيله بالطريقة التي تجعله متلائماً ومنسجماً مع محيطه لضمان تحقيق التفاعل والتأثير المتبادل بين الفرد والمجتمع، فلكل مجتمع أهدافه وطريقته وأساليبه الخاصة بالتربية، وشخصية الفرد في النهاية ليست إلا نتاجاً حتمياً لما تلقاه في أثناء حياته من تنشئة اجتماعية وتربية سواء أكانت تربية نظامية أم لانظامية وغير نظامية التي تحدثنا عن كل واحدة منها بشيء من التفصيل في هذا المقال.




مقالات مرتبطة