الانتظار و الابعاد التقدمية للانسان

 

يبدو أن فكرة المخلص أو المنقذ فكرة كامنة في اللاوعي الإنساني ومستحكمة في ذاته بالملازمة وعدم الانفكاك، فهو وإن كابر في اللامبالاة فلا يلبث حتى يعود خاضعاً ملتمساً الخلاص في نكبته من اللاشيء إلا أنه مقتنع في داخله من وجود قوة قادرة على إنقاذه.


 

ومنه ذهاب الأديان جميعاً إلى أنه في نهاية كل مرحلة من مراحل التاريخ يتجه البشر صوب الانحطاط المعنوي الهابطة نحو الأسفل، فلا يمكنهم أنفسهم أن يضعوا نهاية لهذه الحركة التنازلية والهبوط المعنوي والأخلاقي. إذن لا بد من يوم تظهر فيه شخصية معنوية على مستوى رفيع تستلهم مبدأ الوحي وتنتشل العالم من ظلمات الجهل والضياع والظلم والتجاوز.
ونحن الآن في عصر الأنوار والتكنولوجيا التي تجردنا من إنسانيتنا عصر النهايات نهاية كل ما هو إنساني، عصر السيطرة الاستهلاكية وتعليب العقول عصر إشباع اللذات والسُعار الجنسي عصر دشدشة العالم ضمن إطار الاستهلاك المادي والانحلال المعنوي والأخلاقي.
وفي هذا العصر يتطور عالم القمع بكل أشكاله المنظم منه والعشوائي في جميع مجالات الحياة، القمع الذي يعيشه إنسان هذا اليوم.. وهو عالم لا يصلح للإنسان ولا لنمو إنسانيته، بل هو عالم يعمل على (حيونة الإنسان) أي تحويله إلى حيوان كما عليه الكتاب المفكرون.
فحين نلتمس حجم خسائرنا في مسيرتنا الإنسانية، سندرك أنه سينتهي بنا الحال إلى أن نصبح مخلوقات من نوع أخر كان اسمه (الإنسان) من دون أن يعني هذا تغييراً في شكله، فالتغيير الأكثر خطورة هو الذي جرى ويجري في بنيته الداخلية، العقلية والنفسية.. طالما أن عمليات القمع والإذلال والاستغلال قائمة ومستمرة، وإذا كان الأمر كذلك، فكم فقدنا من كرامتنا وتضامننا الإنساني، وإحساسنا بإنسانيتنا حتى صرنا نتعود على الإذلال المحيط بنا، لنا ولغيرنا، وحتى صرنا نقبل هذا العنف والتعامل غير الإنساني الذي نعامل به نحن أو يعامل به غيرنا على مرأى منا. وينعكس تعودنا على هذا الإذلال في أننا صرنا نعتبر تعذيب السجين أمراً مفروغاً منه، لم نعد نتساءل عن أثر ذلك التعذيب من السجين الضحية، حتى بعد خروجه من السجن، كما أننا لم نعد نتساءل عن أثر التعذيب في منفذه، وهل يستطيع أن يعود بسهولة إلى حياته اليومية العادية بعد خروجه من غرفة التعذيب.. يكتب عالم الروبوتات رودين بروكس: العالم يتغير، وتتغير بشريتنا داخله، وقوى التغيير لا تقاوم وقد استمرت طوال الخمسمائة عام الماضية).
ويجادل بعض المتعصبين للتكنولوجيا، في محاولة لإنهاء الجدل قبل أن يبدأ. بأن وقت رسم الخط الفاصل قد فات: فنحن قد هُنْدِسْنا بالفعل، يؤكدون أن كل من يستخدمون وسائل سمعية مساعدة أو مفاصل اصطناعية هم روبوتات أولية. إذا كنت تعمل على حاسب متصل بشبكة، فستكون بذلك قد باشرت بالفعل توصيلاً مفصلياً مزدوجاً ينكر يعلن عن نهاية الهوية التقليدية.
ولقد نستسلم ببساطة وننتهي إلى أن المسالة مفرطة في تعقيدها، وأن غاية ما نستطيع أن نأمله هو (أن نترك السوق يقرر) لكنا قد لا نفعل هذا، يمكننا أن نتخيل سياسة تظهر، تأخذ التكنولوجيا مأخذ الجد، سياسة نبدأ في معاركتها بذكاء، سياسة تتحد، سياسة توّلد مع الوقت شبكة من القوانين – ومن ثم من المحرمات تبقي علينا بشراً بشكل أو بآخر، أبداً لن نحرز نصراً مستديماً – تماماً مثلما يمكنك أن تنقذ منطقة برية مرة كل عام، تماماً مثلما تعجز أعتى المعاهدات عن أن تنسي الفيزيائيين كيف يصنعون القنبلة الذرية، كذا ستبقي هندسة الخط الجرثومي دائماً تغري العلماء. ثمة جزء جديد مما يعنيه أن نكون بشراً، هو أن نحيا مع هذه الأمكانيات وأن نرشدها وأن نوجّهها، وأن نوقفها إذا لزم الأمر.
ولا يمكننا أن نرشد ونوجّه هذه الإمكانيات العلمية الفائقة دون الاقتناع بفكرة المخلّص والمنقذ إذ انتظار المخلص مما يعطينا دفعاً نحو المواجهة لكل ما هو غير إنساني وقوة للاستعداد من كل النواحي أخلاقياً وإيمانياً وسياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً وعلمياً ثقافياً لاستقبال المخلص العظيم الذي ننتظره فهو الوحيد القادر على تغيير مجرى الظلم والاعتداء والفساد إلى النهاية الحتمية وإظهار العدالة والحرية والإنسانية والعزة والكرامة.
                      

المصدر: شباب عا نت