الاكتئاب.. الحياة بمنظار أسود

 

الاكتئاب.. الحياة بمنظار أسود
د. ياسر عبد الكريم


لغة الأرقام تكون مخفيةً أحياناً. خاصة عند الحديث عن مرض ينظر إليه العلماء على أنه (الوباء الذي يلوح في الأفق). حيث يقدرون أنه في عام 5202م سيحل الإكتئاب في المرتبة الثانية - بعد أمراض القلب- بين الأمراض المسببة للعجز. أي الأمراض التي تمنع الناس من الذهاب إلى أعمالها والإستمتاع بحياتها. كما تدلنا الإحصاءات على أن ربع نساء العالم مصابات بالإكتئاب بمختلف درجاته (الخفيف، والمتوسط، والشديد). وأن عشرة إلى خمس عشرة بالمائة من الرجال مبتلون بهذا المرض المزعج.
لكن لابد أن نفرق هنا بين الأعراض الإكتئابية وبين الإكتئاب كمرض. فشعورنا المؤقت بالحزن والضيق والرغبة في العزلة عن الآخرين بسبب أحداث الحياة المتباينة أمر نشهده جميعاً وبكثرة.



ومع اتباع بعض الوسائل النفسية والتي سنذكرها هنا نستطيع- بإذن الله- تجاوز هذه المشاعر المزعجة. أما عندما تشتد حدة هذه الأعراض ويطول أمدها فهذا دليل على الإصابة بمرض الإكتئاب. وهو اضطراب دماغي بيولوجي ينجم عن خلل في مواد كيميائية في الدماغ. تظهر أعراضه عند حدوث أي ضغط نفسي (وفاة قريب أو فقدان للوظيفة.. إلخ).

ويتميز بعدد من الأعراض:
* الحزن والبكاء وضيق الصدر.
* الإنسحاب من الحياة الإجتماعية، وعدم الرغبة في الإختلاط بالناس ومجالستهم.
* ضعف الذاكرة وصعوبة في التركيز.
* اضطراب النوم، أي صعوبة في النوم أو اليقظة المتكررة في الليل أو الإستيقاظ المبكر (أي قبل مواعيد الإستيقاظ المألوفة بساعتين تقريباً).
* نقص الشهية وبالتالي نقص الوزن.
* سرعة الغضب والنرفزة.
* عدم القدرة على التمازح والضحك.
* فقد الإهتمام والإستمتاع بما كان يمتع المريض من قبل. (بما في ذلك الجنس).
* التعب وسرعة الإنهلاك من أقل مجهود.
* الشعور بآلام جسدية مختلفة ليس لها تفسير طبي واضح.
* الشعور بالوحدة، وتخلي الناس عن المريض، وفقدان الأمل من الدنيا، وتمني الموت، والتفكير في الإنتحار.
* فقدان الشعور بالأهمية والفائدة.
* لوم النفس بشكل زائد أو غير منطقي (الشعور بأنه ارتكب محرمات كثيرة لا يغفرها الله، أو أنه قصر في علاقته مع شريكة حياته، أو تربيته لأولاده).
وللأسف مازال الناس يشعرون بالوصمة عندما نحدثهم عن الإكتئاب، مما يؤدي إلى رفضهم للعلاج. رغم كل محاولاتنا لإقناعهم بأنه مرض بيولوجي يصيب الصالحين والطالحين، مثله مرض السكر والربو وغيرهما.


كيف تساعد نفسك للخروج من الإكتئاب؟
سنحاول أن نناقش هنا بعض المهارات والوسائل النفسية التي ستساعدك للتخلص من الشعور بالضيق والحزن. ولابد أن أذكر أننا نحتاج التدخل الدوائي في كثير من الأحيان. واترك اتخاذ هذا القرار للطبيب النفسي المختص.


أولاً: اللجوء إلى الله عز وجل، واستشعار عونه، وتقوية الصلة به عبر المداومة على الصلاة والدعاء ففي قربه ومناجاته خير علاج، وأنجح دواء.
ثانياً: اكتشف الإفتراضات المعوّقة وصححها:
وهي عبارة عن قواعد وافتراضات مسبقة غير صحيحة، تمثل أرضية فكرية نبني عليها أسلوبنا في التفكير واتخاذ الأحكام. تتعلق هذه الإفتراضات بأنفسنا وعلاقتنا ومختلف نشاطات حياتنا. وهناك العديد منها. سأذكر بعضها هنا، تأملها واختبر نفسك:
* يجب ألا أشعر بالحزن والضيق فهذا دليل الضعف.
* ينبغي ألا يكون هناك أي ضغط في حياتي.
* يجب ألا أبدي أي ضعفٍ أو قلق حتى أكون راضياً عن نفسي.
* يجب أن يعاملني الناس باحترام ما دمت أعاملهم باحترام.
* إذا أردت النجاح لعملي فلابد أن أقوم به بنفسي.
* لكي أشعر بالسعادة لابد أن أحظى باحترام جميع من حولي وقبولهم.
* لكي أحظى بالقبول لابد أن أكون مبرّزاً في عملي/ علاقاتي/ مظهري.


ثالثاً: انتبه من أخطاء التفكير:
عندما نمر بحدث ما أو نشعر بأذية عاطفية فإننا ننزع إلى تحليل هذا الحدث ومحاولة استيعابه واستصدار حكم عليه. في هذه الأثناء، كثيراً ما نرتكب أخطاءً فكريةً تؤدي إلى الوصول إلى النتيجة الخطأ، والحكم غير الصحيح على الحدث أو على أنفسنا أو على الآخرين. وما بني على خطأ فهو خطأ. وهكذا حينما ننطلق من مقدمات خاطئة ومن ثم نخطئ في التفكير والتحليل، فسننتهي- لا محالة- إلى أحكام مشوهة ومنحازة.


يحدد العلماء عدداً كبيراً من أخطاء التفكير التي نرتكبها دون أن نشعر. سأذكر أهمها هنا، أريدك أن تدرسها بعناية حتى تمنع نفسك من الوقوع فيها:
* تفكير التعميم: حيث نطلق استنتاجات عامة عن أنفسنا والآخرين بناءً على حوادث فردية أو معلومات غير كافية: (لقد رسبت في الإمتحان.. لقد فشلت.. أنا فاشل). حيث حكم على نفسه حياته بالفشل بسبب حدث واحد مجرد، الإمتحان الذي لم ينجح فيه! ومثله أيضاً: (لقد فشل زواجي، سوف لن أجد شخصاً آخر، سوف لن أكون سعيدةً). حيث أدى فشل تجربة واحدة إلى الوصول إلى حكم نهائي ومستمر بالتعاسة.


* التصفية الذهنية: حيث نوجه تركيز تفكيرنا بشكل كامل إلى الجانب السلبي من الحدث ومن ثم الحكم عليه من ذلك الجانب.
لقد تفوهت بكلمة غير مناسبة أثناء الإجتماع. لقد كان اجتماعياً مريعاً. وقد شبه أحد الكتّاب هذا الأسلوب من التفكير بنقطة الحبر الذي تقع في كأس من الماء حيث تنتشر لتصبغ الماء كله. بينما الأسلوب الأمثل هو النظر إلى الحدث ككل بأسلوب موضوعي:
لقد أوقعت كأس العصير أثناء عشاء عمل مهم، لقد شعرت بالإحراج، لكن ما إن تم تنظيف كل شيء، حتى سارت الأمور على ما يرام.


* التفكير الكارثي: هو التوقع الدائم لأسوأ السيناريوهات التي قد تسير إليها الأمور، والإنشغال الدائم بالتفكير بأسوأ الإحتمالات.. حيث كل ألم هو مرض خطير، وكل انتقاد هو رفض كامل، وبسبب أي خطأ سأفقد وظيفتي.


* التفكير الشخصاني: أي محاولة تفسير أي حدث بشكل شخصي.. فالمدير الذي يأمرك أن تؤدي عملا ما على شكل مغاير فستفكر: "إنه ينتقدني، إنه لا يحترمني". وكذلك تعريض نفسك للوم على أفعال لست المسئول عنها. "لقد قصرت في رعاية زوجي.. لقد طرد من عمله.. أنا السبب في طرد زوجي مع عمله".


* ربط المستقبل بالماضي: حيث نلجأ إلى الماضي لتوفير الأدلة على ما يساورنا من هواجس أو للوصول إلى نتيجة ما.. "لقد شعرت بالقلق في الإحتفال الماضي، لذا سوف لن أستمتع هذه المرة".. كذلك أولئك الذين عاشوا أياما صعبة في حياتهم الماضية فيميلون لربط كل ما يحدث وما يتوقعون حدوثه بتلك الذكريات المؤلمة.


* الميل إلى قراءة ما في عقول الآخرين: حيث ننشغل بالتنبؤ بما يدور في عقول الآخرين حولنا أو حول أعمالنا. فبعد مرورك بموقف محرج تفكر: "لابد أنهم يتسامرون ويتضاحكون على تصرفاتي، يالي من غبي!"، "لماذا ينظرون إلى هكذا.. يبدو أنهم لم يحبوني!".


رابعاً: نحتاج دائماً أن نعيد توجيه وعينا وانتباهنا إلى ما نملك، وإلى ما منّ الله عز وجل علينا بدل أن نوجهه إلى ما نتمناه أو ما يملكه غيرنا. لو نظرنا حولنا لوجدنا أننا نتمتع بنعم كثيرة.. وفي حياتنا إيجابيات عديدة، لكن أنظارنا غابت عنها ونحتاج أن نكتشفها من جديد.. أطفالك الذين يلعبون من حولك، زواجك المستقر، صحتك المتعافية بديناً.. وغير كثير. قال أحدهم هذه العبارة البليغة التي تستحق أن تكرر قراءتها:
شعرت بالكآبة حين نظرت ليس لدي حذاء، إلى أن رأيت رجلاً في الشارع يسير ليس لديه ساقين!!
هنا اختلفت الأمور تماماً. وبدأ ذلك الفقير يشعر بالرضا رغم صعوبة ما يوجهه.


خامساً: فرضت علينا العولمة صورة موحدة للسعادة، وهي الإنغماس في عدد لا يحصى من اللذائذ المؤقتة كتناول وجبة مميزة (وغالية الثمن طبعاً)، والسفر إلى أقاصي الأرض بحثاً عن الترفيه، والشراء الذي لا حدود له من الملابس والحوائج الإستهلاكية الأخرى. وصرفت انتباهنا عن بناء حياة طيبة، حياة لها معنى، حياة نترك فيها بصمتنا الخاصة عبر العديد من النشطات التي نحبها ونبرع في أدائها، والتي تترك أثراً جميلا في أنفسنا وفي من حولنا. لكي نتخلص من شعورنا بالحزن والضيق لابد أن نبتكر لأنفسنا رسالة وهدفاً. إننا بحاجة إلى أن ننظر إلى الدنيا على أنها فرصة لكي نُظهر فيها أفضل ما نمتلك من مزايا ومهارات، ونحول أحلامنا إلى واقع نعيشه، وبذلك نبني عالماً يحلو لنا ولغيرنا العيش فيه.


سادساً: العلاج بالكتابة:
قدم جيمس بينيبكر وسيلة فعالة في محاربة الشعور بالحزن. حيث يرى أن التنفيس عن تلك المشاعر يتم عبر كتابتها بالتفصيل، وإطلاق عنانها عبر وصفها بالكلمات المكتوبة. مما يوفّر الفرصة للتخفيف من وطئتها. ويقترح هنا أن تتناول القضية التي تسبب لك ضيقاً، وتبدأ بوصفها وتحديد مشاعرك تجاهها خلال خمس عشر دقيقة من الكتابة المستمرة. ستجد في نهاية هذا التمرين استرداد شيء من حيويتك ونشاطك. والتجربة خير برهان!


ختاماً: هذه بعض الإشارات التي أرجو أن تساعدك للتخلص من إحدى أهم معكرات الحياة التي تورث اليأسن وتشل الفاعلية، وتكسو الحياة السواد.

 

بلاغ كـوم

الاكتئاب..الحياة بمنظار أسود