الاستفادة من الإرادة الحرة

دعك من كتب ومقالات الأنظمة الغذائية، وتوقَّف عن تجويع نفسك، وهاك أحد أهم الأساليب المستخدمة لعيش حياة صحية: "تقسيم عربة تسوق البقالة".



هذا ما وجده الباحثون عندما قاموا بتقسيم عربات تسوق البقالة إلى جزأين؛ إذ تم تخصيص أحدهما للخضار والفواكه، والآخر لباقي المشتريات، وقد دفعت هذه التجربة المتسوقين إلى زيادة وعيهم بمشترياتهم، الأمر الذي دفعهم إلى شراء مزيد من الطعام الصحي، والتقليل من المنتجات غير الصحية.

لم يتوقف الباحثون "براين وانسينك" (Brian Wansink)، و"ديليب سومان" (Dilip Soman)، و"كينيث هيربست" (Kenneth Herbst) عند هذا الحد؛ بل إنَّهم عمدوا إلى تغيير حجم الأقسام، واكتشفوا أنَّ كمية الخضار والفواكه التي يشتريها المتسوقون تتناسب طرداً مع حجم القسم المخصص لها ضمن العربة، ويتضح من خلال البحث إمكانية دفع الزبائن إلى اختيار نظام غذائي صحي عند التحايل عليهم.

تقوم هذه التجربة على التلاعب بعقول المتسوقين ودفعهم للامتثال للقواعد الموضوعة من قِبل الباحثين، ويبقى السؤال: "هل يتم التلاعب بالإرادة الحرة للإنسان بهذه الطريقة؟"، بالطبع لا.

طبيعة الإرادة الحرة:

يمكنك أن تعيد تصميم وتجزئة عربة التسوق بالطريقة التي تحلو لك، ولكنَّ تغيير أنماط الشراء لا يحدث ما لم يرغب المرء بالتغير في قرارة نفسه؛ إذ تفيد التجارب بأنَّ تنفيذ قرار تغيير العادات هو أصعب بكثير من اتخاذ القرار بحد ذاته، بصرف النظر عن مدى رغبة الفرد بإحداث هذا التغيير.

يتحقق النجاح عندما يتحايل الإنسان على نفسه، فإذا كان يسعى إلى الوصول إلى الوزن المثالي على سبيل المثال، فإنَّه يشترك في نوادٍ فخمة وذات اشتراكات غالية ليجبر نفسه على التمرين ولا يهدر نقوده سدى، ويوظف مدرباً ليجبره على الالتزام وتجاوز منطقة الراحة؛ بل ويمكن أن يشتري أحياناً ملابس بمقاسات صغيرة لكي يزداد عزمه على إنقاص وزنه وارتدائها، إذاً خلاصة القول، تدفع الإرادة الحرة الإنسان إلى التحايل على نفسه، أو خضوعه للتلاعب من قِبل أطراف خارجية.

بالعودة إلى الشريط الأصفر الذي استخدمه الباحثون لتقسيم عربة التسوق؛ إذ يوحي الشريط الأصفر الذي يشبه الأشرطة التي تستخدمها الشرطة في موقع الجريمة، بوجود قيود مفروضة من سلطة عليا على مستوى العقل الباطن، وتقتضي الطبيعة البشرية الامتثال للمعايير المفروضة من قِبل المجتمع، على الرغم من نزعة الفرد لعدِّ نفسه متمرداً على هذه المعايير، وقد تتوق النفس البشرية لتحقيق التوازن؛ ولهذا السبب يود الفرد أن تكون أقسام عربة التسوق متوازنة، حتى لو كانت أحجامها مختلفة.

تتلاعب متاجر البقالة بالأفراد عبر تشغيل موسيقى هادئة تطيل من مدة بقائهم ضمن المتجر، كما يُلاحَظ عدم وجود ساعات ضمن المتاجر حتى يفقد المتسوق الشعور بمرور الوقت، كما أنَّهم يعيدون ترتيب الرفوف كل بضعة أشهر، لكي تزداد صعوبة بحث المتسوق عن المنتجات التي يعتزم شراءها، ويلاحظ منتجات جديدة لا يحتاج إليها ولم يخطط لشرائها مسبقاً، ولكنَّه يندفع بطريقة لا واعية إلى شرائها.

إنَّ المواقف التي يستجيب لها الفرد بوصفها انتهاكاً لإرادته الحرة تقدم له في حقيقة الأمر فرصة لفرض هذه الإرادة الحرة؛ إذ يمكن للفرد أن يتحكم بدوافعه ورغباته عبر فرض تقسيمات عقلية مشابهة لتقسيمات عربة التسوق.

شاهد بالفيديو: أهم 7 أسرار في حياة أصحاب الإنجازات

 

ترتيب الأولويات في الحياة:

لا بد أنَّك سمعت بقصة المعلم الذي وضع عدداً من الأحجار في جرة زجاجية كبيرة، وسأل الطلاب "هل الجرة ممتلئة؟" فأجاب جميع الحاضرين في الصف بأنَّها ممتلئة، فما كان من المعلم إلَّا أن أحضر بعض الحصى ورماها في الجرة لتسد الفراغات بين الأحجار، واتفق الطلاب مجدداً على أنَّ الجرة ممتلئة.

أعاد المعلم التجربة مع إضافة الرمل، ثم الماء، وبعدها شرح العبرة: "عندما تفسحون المجال للأشياء الكبيرة والهامة في البداية، ستتمكنون من إيجاد المساحة اللازمة للأشياء الصغيرة الثانوية".

ينطبق المفهوم نفسه في الحياة، فإذا أعطينا الأولوية في البداية للعائلة والمجتمع، فسيبقى بمقدورنا إفساح المجال للحياة المهنية، وبعدها للتسالي، ومن ثم لنزعة التملك، ولكنَّنا إذا ملأنا حياتنا بالأشياء الصغيرة الثانوية في البداية، فعندها لن نتمكن من إفساح المجال للأشياء القيِّمة في الحياة.

تقتضي الإرادة الحرة أن يتحمل الفرد كامل مسؤولية أفعاله، وهذا يعني عدم السماح للنزوات والرغبات بالسيطرة على قراراته وأعماله، أو إعطاء الآخرين الصلاحية لفرض الأولويات عليه، فقد أصبح العالم محكوماً بثقافة التسويق في العصر الحديث، ومن هنا برزت الحاجة إلى الاستعانة بالتقسيمات الذهنية، ليتذكر الإنسان أنَّه لا يجب أن يتلقى كل ما يحاول المجتمع أن يفرضه عليه.

لا تعد هذه الطريقة مضمونة دائماً، فقد اكتشف الباحثون أنَّ القيام بالتسوق في أثناء الشعور بالجوع، يؤدي إلى العودة إلى العادات القديمة المؤذية؛ إذ تثبت هذه التجارب أنَّ الخيارات الصائبة تشترط وجود ذهن صافٍ، وأنَّ التخلص من السلوكات المؤذية، يتطلب المحافظة على مستوى ثابت من الانضباط الذاتي.

إقرأ أيضاً: أهم 7 أولويات في الحياة وطرق تحقيقها

في الختام:

يعيش الإنسان في صراع دائم مع الأنانية والانغماس بالذات؛ إذ تتحكم هذه النزعات في خياراته وقراراته، ولا يسعه أن يتخلص منها؛ وذلك لأنَّها راسخة في الطبيعة البشرية، لكن بوسع الإنسان باستخدام القليل من الإرادة والحنكة أن يعيد توجيهها، ويحول تأثيرها السلبي إلى إيجابي، ويحرر نفسه من سلطتها، ويحقق التقدم الشخصي والنجاح الذي ينتظره في حياته.




مقالات مرتبطة