الاستعمار الحديث.....جداً

تعلمنا في المدرسة في دروس التاريخ، أن الاستعمار نوعان، الاستعمار القديم الذي كان يأتي بجيوشه لاحتلال البلاد واستغلال العباد، والاستعمار الجديد الذي لا يأتي بالجيوش، بل يمتص خيرات البلاد عن طريق الشركات الضخمة متعددة الجنسيات، التي ترتدي ثياب التطور والرغبة في مساعدة أهل البلاد على استخراج خيراتها، فتستحرج الخيرات وتنهبها ولا يكون نصيب البلاد منها إلا الفتات.

غير أن هناك نوعاً جديداً من الاستعمار نخشى أن يظهر في أية لحظة، بعد أن ظهرت إرهاصاته ومقدماته، وأصبح الجو مهيئاً له، ولا أريد أن أضع له اسماً، ولنسمه الاستعمار الحديث...جداً!!



وبيان ذلك أن العالم يعيش في ثورة تقنية وشبكية حقيقية (شبكية نسبة للشبكة العالمية، تعريب كلمة إنترنت)، بحيث أصبحت التقنيات الحاسوبية والشبكية أموراً لا غنى عنها لكل أمة، وهو أمر أصبح معروفاً ومسلماً به ولا يحتاج لشرح ولا لتأكيد، ولكن ما يحتاج للملاحظة والانتباه، هو أن هذا العالم التقني الواسع الفسيح، الذي يبدو أنه بحر لاساحل له، له مفاتيح وأسرار، ويقوم على ما يمكن أن نسميه  مراكز ثقل أو نقاط استقطاب مفصلية، من يسيطر عليها ويتحكم بها تكون له اليد الطولى في التحكم بالعالم الشبكي، وهذا قد يقود إلى التحكم بمقدرات الأمم ومستقبلها، وليس في الأمر أية مبالغة.
ونبدأ بمؤسسة تدعى The Internet Assigned Numbers Authority
ويرمز لها اختصاراً (IANA)وترجمتها : سلطة الأرقام المخصصة للشبكة العالمية، وهي مؤسسة حكومية أمريكية (ضعوا خطين تحت كلمة حكومية!)مسؤولة عن قواعد بيانات جميع عناوين بروتوكولات الشبكة العالمية والتي تعرف بمصطلح     IP address  

وكذلك عن جميع القضايا التقنية المتعلقة بالشبكة العالمية، أي بتعبير آخر هي التي تقوم بالإدارة التقنية للشبكة العالمية، وهي التي تسمح للدول الأخرى باستخدام الشبكة،  وتتحكم بشيفرات البلدان المحتلفة، وهذا يعني أن الحكومة الأمريكية ومن خلال الأيانا تستطيع أن تمنع تشغيل أية شيفرة لدولة معينة، والمقصود بذلك أنها تستطيع لو شاءت أن تمنع أية دولة من استخدام الامتداد الخاص بها في أسماء النطاقات، مثل sy لسوريا، وae للإمارات  وly  لليبيا وغيرها.
اما مركز الثقل الأخر فمؤسسة تدعى
  
Internet Corporation for Assigned Names and Numbers
ويرمز لها اختصاراً   (ICANN)   وترجمتها مؤسسة الشبكة العالمية (الإنترنت) للأسماء والأرقام المخصصةوهي المؤسسة التي تقوم بالشؤون الإدارية المتعلقة بإدارة الشبكة، وتهيمن على أسماء النطاقات في العالم كله، فتسجيل أي اسم نطاق(Domain Name)  حول العالم لا بد أن يكون عن طريقها، أما شركات تسجيل الأسماء المعروفة، فهي ليست إلا واجهات أو وسطاء بين المستخدمين وبين مؤسسة الأيكان، وهذه المؤسسة وإن كانت غير حكومية نظرياً، ولكنها لا زالت حتى الآن تحت سيطرة الحكومة الأمريكية من خلال اتفاق بينها وبين مؤسسة (أيانا).

ومركز الثقل الثالث هو محركات البحث، وأشهرها اليوم (غوغل)، و(ياهو)، ولا يخفى على المطلعين أهمية محركات البحث في التحكم بالشبكة، فهي السفينة التي يركبها من يريد الإبحار في عبابها، ونعلم أن الحكومة الأمريكية تمكنت من فرض بعض رغباتها على شركة (غوغل) وأنها حاولت أن تحصل منها على بعض المعلومات الخاصة بالمتصفحين، فلم تتمكن (حتى الآن!)، ولكن لنفرض أن الحكومة الأمريكية قررت شراء هذه الشركة، أو تمكنت بطريقة ما من فرض نفوذها عليها، افلا تستطيع أن تتحكم بعقول الناس وأفكارهم؟ ألم تشعر أوروبا وعلى رأسها فرنسا بخطر (غوغل) بالذات فراحت تسعى لإنشاء محرك بحث أوربي؟
ومركز الاستقطاب الرابع في العالم هو صناعة الرقائق الحاسوبية، وهذه أيضا تتحكم بها شركات محددة حول العالم، على رأسها شركة (إنتل)، وهي أيضاً أمريكية، ولايخفى على أصحاب الاطلاع كيف تتعاون إنتل ومايكروسوفت لتحقيق بعض المصالح المشتركة على حساب المستخدمين، ويكفي أن نعلم أن أكثر من ثلث شيفرة نظام التشغيل Windows xp  قد تمت كتابتها في مكاتب إنتل!
وهذا يقودنا إلى مركز الاستقطاب الخامس، وهو شركة مايكروسوفت، المنتجة لنظام التشغيل الذي تستخدمه حتى اليوم أربعة أخماس الحواسيب الشخصية حول العالم، وهو أمر يجعل عالم الحوسبة تحت رحمتها، فلو قررت مثلاً أن تتوقف عن دعم أحد الإصدارات وأن تنتج إصداراً جديداً تجبر عليه الناس لفعلت، ولايغرنكم أنه في بعض البلدان العربية لا زال الناس يحصلون على نظام التشغيل بسعر القرص الفارغ تقريباً، ولكن لو شاءت مايكروسوفت أن توقف هذا لفعلت.

وتركيزاً لما سبق نقول، إدارة الشبكة التقنية بيد الحكومة الأمريكية، وإدارتها التنظيمية بيد مؤسسة تهيمن عليها أمريكا، ومحرك البحث الرئيسي بيد شركة واحدة أمريكية، وصناعة الرقائق بيد بضع شركات أمريكية، ونظام التشغيل المهيمن على الحواسيب الشخصية بيد شركة واحدة، هي (ويا للمصادفة!) أمريكية أيضاً.

تخيلوا ماذا يكون موقفنا لو أن الصحف ووكالات الأنباء حملت إلينا أحد الأنباء التالية أو بعضها أو أحدها: "منظمة أيانا تقرر منع الدولة الفلانية من استخدام الشبكة"، "الآيكان تمتنع عن تسجيل أسماء النطاقات للمنطقة العربية"،  "حكومة الولايات المتحدة تشتري شركة غوغل وتتحكم في محرك البحث الأساسي في العالم، (حيث يمكنها أن توجه نتائج البحث كما يحلو لها، فتوجه الباحث عن كلمة مقاومة إلى مواقع الإرهاب مثلاً، وعلى هذا فقس)"،  "شركة أنتل توقف تصدير الرقائق إلى الدول العربية"،  "ويندوز تطلق إصدارة جديدة، تحتاج لحواسيب أقوى (طبعا ستنتجها إنتل وأخواتها) وتتوقف عن دعم الإصدارات السابقة".

هذه ليست أحلام يقظة، (أقصد كوابيس يقظة!)، لقد بدأت بوادرها تظهر فعلاً، وقد نقل موقع "أخبار سورية" (سيريا نيوز بالعربي)، أن الولايات المتحدة بدأت بتضييق الخناق على بلدنا الحبيب في استخذام الشبكة العالمية، وشركة مايكروسوفت لا زالت تحاول بسط هيمنتها على العالم في مجال نظام التشغيل وغيره أيضاً، مجالات أخرى غير نظام التشغيل، وكلنا سمعنا محاولاتها لشراء "ياهو"، وغوغل تخضع أحياناً لضغوط أمريكا والكيان الصهيوني مع أنها لا زالت شركة مستقلة، ومن ذلك إزالتها للصورة الشهيرة للاعب  الكرة المصري"محمد أبو تريكة" التي يعلن فيها تعاطفه مع المحاصرين في غزة، بعد تعرضها لضغوط صهيوبية، وغير ذلك مما يرشح من هنا وهناك.
لا تسألوني عن الحل، فلا أملك إلا قلمي (أقصد لوحة مفاتيحي)، الأمر أكبر من أن يعالجه مقال أو اقتراح، الأمر يحتاج إلى وقفة الأمة كلها، وعلى مستوى الجامعة العربية، لوضع خطط استراتيجية تجعلنا من صناع القرار في العالم الشبكي والحاسوبي، لا مجرد مستهلكين وتابعين.
(ينشر بالتعاون مع مجلة المعلوماتية السورية)