الإيمان... رافعة أم برنامج عمل؟؟

من الأفكار الشائعة التي تهيمن على العقل المسلم ونمط تفكيره واتخاذه القرار فكرة مفادها "إننا ننتصر بالإيمان".. وأن سر تراجعنا هو نقص الإيمان، ويوم أن يكون عدد الذين يصلون الفجر مماثلاً لعدد يصلي الجمعة سيتنزل النصر من السماء. وتستدعى في ذلك آيات قرآنية مثل "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً" ومقولات خالدة مثل مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه "إننا ننتصر بهذا الدين".



وتستخدم هذه الفكرة كأداة لإحالة العجز عن مقارعة الباطل إلى ضعف الإيمان، فيتوعد الأئمة على منابرهم المصلين باعتبارهم هم سر نكبة الأمة، لتفريطهم في أداء حق الله في العبادات، وتصب عليهم كلمات التقريع اللاذعة كأنهم استنُفروا ولم ينفروا، أو وجدوا رؤية واضحة وقيادة ناضجة ولم ينصروها. لذلك سنتناول هذه الصخرة الكابحة للفعل بالتفكيك عبر سبعة معاول فكرية.

 

المعول الأول: يجب تحرير مصطلح الإيمان، فعند البعض نجد أن الإيمان يعني اصطلاحاً التصديق ومن لوازمه العمل، وعند البعض الآخر أنه تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان، أي أن الإيمان هو كل هذا، وفي كلا الرأيين فإن العمل حاضر عند ذكر الإيمان، سواء كان ملازم للتصديق، أو كان جزءاً من تعريف الإيمان. أما في التعريف غير الاصطلاحي الذي يردده الناس فتارة يعنون به العقيدة أو شقها النظري، فقوة الإيمان تعني نقاء العقيدة وخلو الممارسات من الشرك، وعند البعض يعني إصلاح القلوب والاهتمام بعمل القلب كالإخلاص والحب في الله الخ، والبعض يرى فيه بعض الممارسات الروحانية كالحفاظ على قيام الليل وصلاة الفجر.

 

المعول الثاني: إن مظاهر الإيمان مختلفة، فهي ليست في الصلاة والصيام وقيام الليل فحسب، فقد يتجلى إيمان البعض في التضحية من أجل ما يؤمن به الإنسان، رغم إمكانية تفريطه في بعض الأمور الأخرى، فقد تجد إنساناً لا يحسن صلاته لكنه جريء مجاهد إذا استنفر نفر، ويتجلى الإيمان عنده في استجاباته للحركة والبذل وتقديم روحه لخالقها. إن تفاوت مظاهر الإيمان على العباد مختلفة، فبعضهم يحيي ليله، وبعضهم يتغنى بالقرآن، وبعضهم يتصدق، وبعضهم تراه في الساحات والمعامع حيث لا يتواجد إلا الأبطال. وليس بالضرورة أن من يقوم الليل قادر على مقارعة الباطل، فكم من قائم بالليل ونائم عن الظلم لا يحرك إزاءه ساكناً، أو تراه متردداً كأنما يساقون إلى الموت وهو ينظرون. فالصحابي الجليل أبو محجن الثقفي كان مولعاً بالشراب، مشتهراً به، وكان سعد بن أبي وقاص حبسه فيه. فلما كان يوم القادسية وبلغه ما يفعل المشركون بالمسلمين ألح على أم ولد لسعد – وكان سعد قد أوثقه إلى سارية عندها – أن تفك وثاقه ليقاتل مع المسلمين، وتعهد لها أن يرجع في وثاقه بعد المعركة. فحمل على المشركين حملة صادقة حتى قال سعد: "لولا أن أبا محجن في الوثاق لظننت أنه أبو محجن وأنها فرسي")[1]. وهكذا نجد هذا الصحابي الذي صحب رسول الله rوجاهد في سبيل الله يرتكب كبيرة من الكبائر. فهو لم يستكمل التربية بعد، ورغم ذلك لم يمنعه قادة الإسلام من الخروج في الجيش للجهاد الذي هو من أشق العبادات على النفس بحجة نقص التربية أو الإيمان، بل لقد شهد له سعد بن أبي وقاص بالكفاءة، ولم يقل "أخشى من أن نؤتى من قبل أبي محجن" لأن لكل إنسان نقاط قوة ونقاط ضعف، وأبو محجن كانت نقطة قوته في كفاءته وحبه للجهاد، ونقطة ضعفه في حبه الخمر، غير أن الجهاد يمحو الخطايا فهو خير معين لصاحب الخطيئة على تركها.

 

المعول الثالث: "اعقلها وتوكل" مقولة خالدة لرسول الله قدمت عمل العقل على عمل القلب الذي تحدد هنا في "التوكل"، فبدون إعمال العقل وطرح الرؤى والتخطيط السليم يتحول عمل القلب إلى عمل تواكلي لا علاقة له بالإيمان.

 

المعول الرابع: إن الإيمان (هنا بمعنى الحماسة التي يسببها الايمان) ليس خطة أو برنامج للانتصار ولكنه أحد روافع تحقيق خطة النصر، فكل الجيوش بها ما يسمى وحدة المعنويات، وهي معنية بالحالة النفسية للجنود وشحذ الهمم، إلا أن الجنود في النهاية لا يقاتلون بالوحدة المعنوية ولكنهم يقاتلون بسلاح المشاة والطيران والمدفعية إلخ. فمهها ارتفعت المعنويات وانحط التخطيط والإعداد فلن يُرتجى نصر.

 

المعول الخامس: يجب التمييز بين أنواع الإيمان، فهل هو الإيمان بالله أم الإيمان بالفكرة، أم الجمع بينهما؟! فها نحن نرى جيوش الخوارج ببأسها تكسر جيوش الفهم الأصح للإسلام، وكانت جيوش الخوارج تشتهر بالقوة والصلابة والثبات حتى الموت، وها نحن نرى اليابانيين يقومون بأعمال فدائية، والصينيين يقدمون الآلاف فداء لثورتهم، إن الإيمان أحد روافع النصر، سواء كان الإيمان بمبدأ أو فكرة، أو إيمان بالله وفكرة تستحق الحياة، ولاشك أن دافعية الصنف الثاني أعلى. ولا شك أن الصنف الثاني مثاب في الآخرة.

 

المعول السادس: قضية الإيمان قضية نسبية، فإن فرضنا جدلاً أن جيشاً ما إيمانه 10% فقط بينما الآخر إيمانه 1%، فيفترض في هذا المحور أن يتفوق الجيش الأول إيمانياً، والأمة الإسلامية بطبيعة الحال – في أدنى درجات إيمانها- متفوقة على خصومها إيمانياً، فلم ينتصر الأقل إيماناً على الأكثر إيماناً؟! أم أن الله كتب على المسلمين ألا ينتصروا إلا إذا بلغ إيمانهم أعلى منسوب، فأين سنن الله، أليس الأكثر إيماناً أحق بالانتصار؟؟!! أم أن الله جعل في الدين حرج، وعسَّر على المسلمين حاشاه سبحانه وتعالى. لقد رأينا بعض الحركات الإسلامية المؤمنة تهزم أمام خصومها من أبناء جلدتها كما في مصر في الخمسينيات والجزائر في التسعينيات، ألم تكن هذه الحركات تفترض في خصومها- في أحسن الظن- أنهم أقل منها إيماناً، فلم لم يهزم الله خصومهم؟! ولعل الإجابة هنا أن الله نصر من استوفى منظومة النصر، من حسن تخطيط وإعداد وفهم ودراسة للواقع، أي أن محصلة الروافع والأدوات لدى خصوم الحركات الإسلامية كانت أعلى من محصلة روافع الحركات الإسلامية. إن إيمان الأمة بخير- إذا ما قورن بغيرها من الأمم انطلاقاً من نسبية الإيمان، والواقع المعاش شهد أنه يعلو عندما تُستنفَر في الأزمات، ولا يمكن أن تكون هزائمها بسبب ضعف إيمانها، وإلا لكان خصومها أولى بالهزيمة.

 

المعول السابع: لقد قرن الله الإيمان في كتابه بالعمل الصالح في كثير من المواضع، وأوضح أنه لن يحابي مؤمناً على حساب كافر "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب. من يعمل سوءاً يجز به"، فالله لن ينصر المؤمنين لكونهم مؤمنين، فالإيمان رافعة والعمل الصالح سهم مدبب يرمي به المسلم، فالتخطيط عمل صالح ونقيضه عمل سيء، وإعداد القادة عمل صالح ونقيضه عمل سيء، ومراجعة الأخطاء عمل صالح ونقيضه عمل سيء، ومقارعة الباطل عمل صالح ونقيضه عمل سيء، وكل هذه الأعمال الصالحة مصاديق للإيمان الصحيح الواعي. وكل هذه النقائض تؤكد قوله تعالى "ليس بأمانيكم". إذا استخدمنا هذه المعاول السبعة أمكننا تفتيت هذه الصخرة الكأداء في عقول البعض والتي تقعد بهم عن أخذ أمور الحياة بجدية، نحن بحاجة إلى تصحيح الرؤية بنفس القدر الذي نتحدث به عن تصحيح العقيدة، ونحتاج مكابدة الليالي في التخطيط وإعداد القادة مثلما نتحدث عن مكابدة الليالي في القيام، كما نحتاج الإكثار من المحاولات والمبادرات المدروسة للتعامل مع الواقع مثلما نتحدث عن نوافل العبادات من صيام وصدقة.

 

إن قضية الإيمان من الروافع المهمة التي تدفع للعمل وللإنجاز ولتحمل الصعاب والتضحيات، لكنها لا يمكن أن تكون السر الوحيد لسوء أداء هذه الامة (إلا إذا كان قصد القائل قصور التصديق وسوء العمل)، بل إن الإخفاقات التي مرت بها لم تكن يوماً نتاج تفوق أعدائها إيمانياً، وإنما لقصور عقل قادتها عن إبداع المخارج وإحسان التخطيط، وإدارة الصراع مع خصومها. لذلك إذا أرادت الأمة الانطلاق في ميدان السباق الحضاري، فعليها أن تتحرك في مشروع واضح الملامح، مدروس الخطوات، تديره قيادة واعية قادرة على التعامل مع أعدائها، وتحشد لمشروعها كل إنسان هفت أشواقه لنصرة المشروع. أخيرا..ً إن الاستدعاء المجتزء لنصوص القرآن والسيرة هو أحد أسرار سوء الفهم واللبس الذي يحدث عند حسني النية، فهناك من يستدعي شق "اعقلها" ويغفل عن شق التوكل وهناك من يستدعي شق "التوكل" وينسى شق اعقلها وفي الحالتين الأمة في خطر عظيم فلننتبه ونحاذر حين نستخدم هذه المقولات.

 

[1] محمد أحمد إسماعيل المقدم. علو الهمة. المكتبة التوفيقية. بتصرف