الإعلام وثقافة الطفل المسلم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد

الأطفال هم أمل المستقبل، ورجال الغد، والعناية بهم في كل أمة دليل على الوعي الحضاري وسعة الإدراك التربوي، فهم يمثلون شريحة واسعة من المجتمع، يرتبط بهم تقدمه ونهضته، ويرسم فيهم شخصيته ومستقبله.


والثقافة هي مجموعة المعتقدات والمبادئ والقيم والسلوكيات الحضارية المخزونة لدى الأمم، والتي تحدد معالم شخصيتها وتشكل جوانب حياتها، والأمة الإسلامية لها ثقافة خاصة تستمد أطرها من دينها.

والإعلام هو أداة نشر هذا المخزون الثقافي والحضاري الذي تمتلكه كل أمة، وصوتها البليغ في التعبير عن آرائها وأفكارها ومبادئها وتطلعاتها بين الأمم.
ويتلقى الطفل هذا الإعلام بعفوية تامة، ويتفاعل مع ما ينقله من مضمون ثقافي بسذاجة واضحة، وهو أكثر أفراد المجتمع استجابة لمعطياته، ووقوعاً تحت تأثيره، والإعلام بهذه الصفة من أهم الوسائل تأثيراً على تربية الطفل وبنائه الثقافي، وأشدها مزاحمة للأسرة والمدرسة على وظيفتهما التربوية الثقافية.
وتأتي أهمية هذه الدراسة من كونها تدرس وضع الإعلام الموجه إلى أطفال المسلمين، ومدى استثماره في تثقيفهم وتنشئتهم على مبادئ الدين الحنيف وتشريعاته السمحة، ولا سيما بعد أن طرأت عليه متغيرات ساعدت على تطوره، وسرعة تأثيره، وتحوله إلى أداة خطرة على الناشئة الذين يعني الاهتمام بهم الاهتمام بحاضر الأمة ومستقبلها، وتتبع الدراسة طريقة استقراء حال الإعلام الموجه إلى أطفال المسلمين، وتشخيصه ونقده، وتسعى إلى تقديم بعض التنبيهات والتوصيات تجاه تقويمه والاستفادة منه أداة تربوية وتثقيفية مؤثرة ومهمة في الوقت الحاضر.
التمهيد :
ابتداء لابد من تعريف الطفولة والإعلام وبيان أهميتها لتتضح لنا مصطلحات البحث ومجالاته :
أولاً : مفهوم الطفولة :
1.       معنى الطفولة :
-          لغة : الطفل : هو المولود أو الصغير من كل شيء، يستعمل للمفرد والجمع ، مثل قوله تعالى : {ثم نخرجكم طفلاً{
-          مدة الطفولة : حدد القرآن الكريم مدة الطفولة في قوله تعالى : { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم }فهذه الآية فصلت مراحل عمر الإنسان، وبينت أن مرحلة الطفولة تلي استقرار الجنين في الرحم ثم انفصاله منه بالولادة، إلى أن يبلغ الحُلم وسن التكليف.
-          أهمية الطفولة : هذه المرحلة هي أولى مراحل التأثر والبناء بعد الولادة، يعتمد فيها الطفل على غيره اعتماداً متدرجاً من الكلية إلى الاستقلال، ويحتاج فيها إلى الرعاية والتربية، ويخضع فيها لوسائل التربية والتثقيف والإعلام، ويمكن تحديد أهمية هذه المرحلة من عمر الإنسان فيما يلي :
-          أنها مرحلة طويلة الزمن ذات حاجة إلى رعاية خاصة : ذلك أن مرحلة الطفولة تعني الفترة التي لا يستغني فيها الطفل تماما عن أبويه؛ بل يحتاج فيها إليهما، فالطفل البشري يصل إلى الدنيا وهو في حالة عجز تام، تتعلق حياته بعناية من حوله من عوامل التأثير المختلفة، ومنها وسائل الإعلام، ويتصف نموه بالبطء والتدرج؛ لكل فترة من هذا النمو خصائصها المعينة التي تتطلب عناية خاصة بها؛ فخصائص فترة الرضاعة تختلف عن خصائص فترة الحضانة وفترة التمييز وفترة المراهقة، ومن الثابت علمياً أن المحيط بوسائله هو الذي يرسم سلوك الطفل في المستقبل، فالطفل ليس بوسعه أن ينمو اجتماعياً من تلقاء نفسه، ولا يمكنه أن يحدد وجهة سلوكه دون مساعدة الكبار من حوله، ويدل على هذا المعنى قول الرسول صلى الله عليه و (آله ) سلم : >كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه<.
-          أنها مرحلة قابلة للتكوين والتوجيه والبناء : يأتي الطفل إلى الحياة الدنيا وهو مزود بالطاقات والاستعدادات والميول والقدرات المختلفة والمواهب الطبيعية، وقادر على الملاءمة بين نفسه من ناحية، وبين ما تتطلبه مواقف الحياة في البيئة التي ينشأ فيها من ناحية أخرى؛ لذا كان من الضروري بمكان التعرف على خصائص هذه المرحلة والفوارق بينها في كل فترة منها، وإدراك احتياجاتها ما يتناسب معها، فقد أكدت كثير من البحوث التربوية النفسية أن أسس الصحة الجسمية والعقلية والنفسية والدينية في بناء شخصية الطفل وتفتحها إنما توضع كلها في مرحلة الطفولة؛ ولاسيما في فترة الحضانة ذات القابلية للتعلم وتطور المهارات، وفي فترة التمييز ذات النشاط الحركي والعقلي، يقول أرنولد جيزل : >لن تتاح أبداً مرة أخرى للعقل والخُلُق والروح أن تسير قدما بنفس السرعة التي كانت تسير بها في الفترة التكوينية التشكيلية لما قبل المدرسة، ولن يتاح أبداً للعقل مرة أخرى نفس فرصة باكورة الطفولة في إرساء أسس الصحة العقلية.
-          أنها مرحلة إعداد المستقبل : تعد هذه المرحلة حجر الزاوية لبناء الإنسان وتشييد حضارته وضمان تقدمه، فالعناية بالطفل عناية تؤدي إلى حسن تكوينه وبناء شخصيته من كل نواحيها، والعمل المستمر على رعايتها وحفظها من كل ما يعوقها عن الوصول إلى أقصى طاقاتها ــ مؤشر حضاري للأمة التي تعلق آمالها ومستقبلها على أجيالها الناهضة، فهي تستهدف من تلك العناية وهذا العمل إيجاد الإنسان الصالح القادر على تحمل الأعباء والتكاليف بقوة وجدارة، والمضي بها من أجل بناء مستقبل زاهر؛ فإن من الحقائق التي تتأكد يوما بعد يوم هي أن للإدراكات والمعلومات التي يتحصل عليها الطفل والتجارب التي تقع له في هذه المرحلة تأثيراً قويا في مستقبل حياته، وأنها تعد أساساً لاستقامته وفساده وسعادته وشقائه طيلة أيام العمر، وبهذا يتبين أن مستقبل الإنسان مبني على تكوين مرحلة طفولته والعناية بها، وأن مستقبل المجتمع مرتبط بمستوى هذا التكوين والعناية بهذه المرحلة.
ثانياً : مفهوم الإعلام :
·         لغة : يتقارب معنى الإعلام مع معنى الدعوة والتعليم، فالدعوة لغة النداء والإعلام والإبلاغ. والداعية : هو كل من يدعو الناس إلى بدعة أو دين، وأدخلت الهاء فيه للمبالغة، وإذا كان التعليم مشتقاً من عَلِمَ، يقال : (عَلِمَه كسَمِعَه عِلْماً بالكسر بمعنى عَرَفَهُ وعَلِمَ هو في نفسه) فإن الإعلام مشتق من أعْلَمَ الرباعي ومصدره إِعْلام، بمعنى الإخبار، وعلى هذا فإن التعليم والإعلام أصلهما واحد، وهو الفعل : عَلِمَ؛ إلا أن الإعلام اختص بما كان بإخبار سريع، والتعليم اختص بما يكون بتكرير وتكثير حتى يحصل منه أثر في نفس المتعلم. وإذا كان معنى الإعلام يشترك مع معنى الدعوة والتعليم في الدلالة على هدى أو ضلالة مما يقع في نفس المتلقي، ويتبعها في الوظيفة الثقافية والتربوية ـ فإنه مع التقدم الصناعي الحديث وإنتاج وسائل ذات تأثير سريع مثل الصحافة والمذياع والمرئي وما يسمى بالأنترنيت ـ استقل بمسى خاص ووظيفة خاصة، وصار يشارك الدعوة والتعليم في الهدف والغاية.
·         اصطلاحاً : لم يقتصر المعنى الاصطلاحي للإعلام على المعنى اللغوي وهو مجرد الإخبار والتبليغ بوجه سريع؛ بل تجاوزه إلى معنى يتناسب مع وظيفته الحديثة، وهو التعبير عن ميول الناس واتجاهاتهم وقيمهم؛ بحيث يمكن تعريفه بأنه : نشر للمعلومات والأخبار والأفكار والآراء بين الناس على وجه يعبر عن ميولهم واتجاهاتهم وقيمهم بقصد التأثير.وإذا كان هذا التعريف قد ركز على المضمون دون الوسائل؛ فلأن المضمون هو الذي يعبر عن شخصية الإعلام، أما الوسائل من صحافة وكتابة وإذاعة ومرئي وغيرها فهي : عبارة عن قنوات يمر منها المحتوى لا أكثر؛ إن أُحْسِن استخدامها أعطت النتائج المحمودة، وإن أُسيء استخدامها أعطت النتائج المذمومة، ولا ذنب عليها والتبعة تقع على من استخدمها، ووفق هذا المعنى يمكن تعريفها بأنها : أدوات صناعية تقوم بنقل المضمون في آن واحد أو على التدريج لمجموعة واسعة من الأفراد.
 
·         أهمية الإعلام : استعمل الإنسان بعفوية الوسيلة الإعلامية منذ القدم، وكان اللسان وسيلته الإعلامية الأولى في الإخبار والتصوير والتفاهم والإقناع عن طريق الخطبة والقصيدة والقصة والكتاب، واليوم تجسد الإعلام في وسائل تقنية متطورة، ضاعفت من سرعته وفاعليته وتأثيره من خلال الهاتف والحاسب والأقمار الصناعية ووكالات الأنباء والمطابع ودور النشر والتوزيع والإعلان بالصورة العادية والملونة الناطقة والمتحركة، وتأتي أهميته من النواحي الآتية :
1-      أنه قوة مؤثرة في تكوين الإنسان : فهو ذو شأن في توجيه الميول والمشاعر وتنمية القدرات والمواهب، وفي إعداد الروح والعقل وبناء الجسم، ولا سيما إذا كان القائمون عليها خبراء وأخصائيين في التوجيه في علم النفس والتربية والإعلام، وبارعين في استخدام الوسائل الإعلامية والتحكم في درجات تأثيرها، ذلك أن الإنسان في نظر الإعلام يتغذى بالخبر، وينمو بالفكر، ويتعافى بالمعلومة، وهذا يوضح أهمية الإعلام في تكوين الإنسان وصياغة شخصيته وإعداد جوانبه إعداداً سليماً.
2-      أنه قناة حضارية سريعة التأثير في المجتمعات : فهو رمز من رموز التحضر والتقدم في مقياس الأمم والمجتمعات، وسبيل الدولة الحديثة في إظهار مبادئها وقيمها ومنجزاتها، وأداتها في توجيه شعبها لبلوغ أهدافها وآمالها، ووسيلتها في بناء حضارتها، وتربية الأجيال القادمة على عينها، فإن الإعلام على اختلاف طرقه ووسائله بات يمارس عملية مهمة في حياة الأمم وحضارة الشعوب، لا يكاد يسلم من تأثيره سلبا أو إيجابا فرد أو مجتمع أو دولة.
3-      أنه سبيل الأمة في التأكيد على هويتها : فمن المؤكد أن لكل أمة من الأمم مبادئ وقيما ومفاهيم خاصة بها، تمثل شخصيتها الظاهرة، وتعبر عن نظرتها إلى الحياة، وتنم عن تصورها للوجود، فتحرص على استمرارها، والمحافظة عليها، ووقايتها من عوارض الزمن، وصراع الأفكار، والإعلام هو مرآة أي أمة، وأداتها في نشر مبادئها وقيمها ومفاهيمها، (فما انتشرت ثقافة أمة في عصرنا الحاضر ولا قيمها إلا بقوة إعلامها وإرادة إعلامييها وسعة أفقهم، وما تراجعت ثقافة وانزاحت إلى الهامش إلا بضعف وسائلها الإعلامية وضحالة إعلامييها وفتور همتهم) فالإعلام وسيلة ناجحة في نقل القيم والمبادئ والمفاهيم إلى الآخرين، وصياغة المجتمع على وفقها، وتنشئة الأطفال عليها، وتأكيد ذلك.
المبحث الأول : واجب الإعلام نحو ثقافة الأطفال :
الإعلام هو أداة مهمة للتعبير عن آمال الإنسان وطموحاته، والبوح بما تختزنه الصدور من أحاديث وخواطر، وما يجول في العقول من آراء وأفكار، والانتفاع بها في حياة الناس ومعالجة مشكلاتهم، وهو في الإسلام رسالة ودعوة قبل أن يكون فناً وصناعة، يعتمد على الصدق في القول، والمباح في الفعل، والنصح في الهدف، والنفع في المضمون، ويصان عن اللغط والفضول واللغو؛ فضلا عن الحرام من الفاحش البذيء، وقد قام الرسول صلى الله عليه و (آله )سلم بوظيفة التبشير والإنذار، وأدى واجب الإبلاغ، قال تعالى : { يا أيها النبي إنَّا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً } وقال تعالى : { فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين }(24) ولم يكن واجب الدعوة والإبلاغ خاصاً بالرسول صلى الله عليه و ( آله )سلم وحده؛ بل تعدى التكليف به إلى أتباعه من بعده، قال تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون }، وما هذا الواجب الكفائي إلا لتأكيد فريضة نشر الإسلام بكل عقائده وتشريعاته ومضامينه عن طريق وسائل الإعلام المباحة، وبيان أن التعبئة لهذا النشر أو الاعلام ضرورة في كل وقت وفي كل مكان، وأن الأمة إذا لم تجند له الطاقات، وتهيء له الإمكانات الكافية، وتستثمره في صالح الدعوة إلى الإسلام، وتربية النفوس على الخير، وإعداد الأجيال الصالحة ــ تكن آثمة، مؤاخذة على التقصير في هذا الجانب الحيوي والمؤثر في الإنسان والمجتمع.
واليوم أصبح الإنسان تحت تأثير وسائل الإعلام المختلفة رضي أم أبى؛ ولاسيما وهو في مرحلة الطفولة؛ لأنها أكثر مراحل عمر الإنسان تأثراً وقابلية، فما واجب الإعلام. نحو هذه الفئة التي تمثل أكبر نسبة في الهرم العمري في المجتمعات الإسلامية؛ حيث تتجاوز نسبتها %43 من نسبة العدد السكاني لهذه المجتمعات؟ نسبة كبيرة قريبة من نصف المجتمع، أليست هذه النسبة التي تتبوأ مثل هذه الكثافة من العدد السكاني جديرة بالاهتمام والرعاية الخاصة من قبل وسائل الإعلام والقائمين عليها ؟ إذا كنا نعي الدور الخطير للوسائل الإعلامية في تكوين الإنسان وتوجيه ميوله وتنمية مواهبه، وندرك أن مستقبلنا مرهون بمستقبل أطفالنا ــ فماذا أعددنا لهم من إعلام يبني مستقبلنا المتمثل في أطفالنا اليوم؟ وماذا هيأنا من إعلام مُوَجهٍ لهم إلى ما يتفق مع عقيدتنا وفكرنا وقيمنا ومعطيات ديننا وتاريخنا المجيد؟ هل استطاع إعلامنا أن يؤكد انتماءنا إلى مبادئ الإسلام ومعطياتها ؟ وهل استطاع أن يشيد لنا في مستقبل الأيام مجتمعاً متماسكاً يقوم على مرتكزات الدين والعزة والكرامة والأخلاق؛ أم أنه إعلام يعمل من غير انتماء ولا هوية ؟.
إن من الطبيعي أن يسير الإعلام وفق سياسة مرسومة ونهج واضح، يخدم مبادئ القائمين عليه والمُسَيرين لوسائله وبرامجه، فقد كان الإعلام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي سابقاً يقوم بدور تثقيف جماهيره بالنظرية الشيوعية، ويدحض الأفكار التي تخالفها، ولا يزال الإعلام الغربي يجعل من الركض وراء المادة بأنواعها قاعدة أساسية في سياسته ونشاطه، ومن أجل ذلك تحلل من كل القيم والأخلاق بعد أن قطع صلته بالدين والخلق، وسلك مسلك العلمنة في الإعلام والتربية.
لقد نشأ الإعلام في المجتمعات الإسلامية في زمن كان الاستعمار الغربي يجثم على غالبها، والفكر الإسلامي غائباً عن ساحة التأثير الثقافي، مما جعل الإعلام في هذه المجتمعات ينطبع بطابع الفكر الغربي من حيث مظهره وجوهره، وينشأ غريب النزعة والهدف، يُعنى بتنوع الوسيلة ومظهرها أكثر من عنايته بالمضمون والمحتوى، ويسخر لتذويب شخصية الأمة الإسلامية، وتغذية ناشئتها بعناصر الفكر الفاسد، لقد بدأ الإعلام نشاطه وهو يعاني من محنة وعجز، محنة في الأخلاق والقيم؛ إذ نشأ بعيداً عنها، وعجز في استقلال هذه الصناعة الحديثة؛ إذ نشأ عاجزاً عن الاستقلال في توظيف وسائلها فيما يخدم الأمة، ويرسخ انتماءها إلى الإسلام، ويعود على الأمة بالخير والمنفعة، ولايزال غالب إعلام أمتنا إلى يومنا هذا يعاني من آثار هذه النشأة التي انعكست سلباً على مستقبله حتى بعد رحيل المستعمر من بلاده، وحتى بعد اتساع خبراته في صناعة الإعلام ووسائله؛ لأن هذا الإعلام بقي تابعاً مرتبطاً بالتقدم التكنولوجي الغربي السريع وأساليب الإعلام الغربي، ولم يُعْنَ ببناء ذاتيته، ويكرس انتماءه إلى دينه، ويؤكد على هويته مما أخر تحرره من ربقة الفكر الغربي والتخلص من هيمنته، إن نظرة متجردة وفاحصة إلى المضامين الإعلامية وحدها تكفي في استنتاج حكم، هو أن ذات إعلامنا الإسلامي متأثرة بمنهجية وافدة إن لم تكن ممسوخة أو منسوخة تماماً، فالمضامين الإعلامية عندنا لا تعدو أن تكون ذات نسج غربي بلسان عربي، وأنها ذات توليفة في أفكارها وطرائقها لا تعتمد على نضج ووعي بإشكالية الأصالة الإعلامية والمعاصرة، ولا بأهمية الإعلام ودوره في بناء الانتماء للأمة وتأكيد هويتها، فهو إعلام نشأ ويعيش في ظل التبعية للإعلام الغربي إلا ما رحم ربي في بعض وسائل الإعلام ومجالاته وبرامجه الهادفة.
تظهر آثار هذه التبعية للفكر الغربي فيما يقدمه الإعلام للطفل في المجتمعات الإسلامية من قصص خيالية تدور حول المبالغات والخوارق والأساطير الكاذبة، يقرأها أو يستمع إليها، أو يشاهدها من خلال أفلام الكرتون والمسلسلات؛ لتكرس في نفسه الصراع، أو تشككه في عقيدة الإيمان بأن الله القوي وحده، وأنه المدبر للكون والمهيمن عليه؛ إذ يرى أشخاصاً لهم قدرة على إيقاف حركة الكون أو منع الموت وفعل الخوارق والمعجزات كما في السوبرمان وبو بَّاي وغيرها، بل من هذه القصص ما يقوم على أساس الوثنيات وتعدد الآلهة، ومنها ما يدور حول الخيانة وحوادث العنف والسرقة والقتل وحيل المجرمين وترويج المخدرات، والدعوة الصريحة أو المبطنة إلى الخروج على القيم والأخلاق وإشاعة العادات والآداب الغربية، ولم يقف الإعلام عند هذا الحد بل تحول إلى وسيلة تغالط في تاريخ الأمة وتثير الشبه والشكوك في نفوس القراء والمستمعين والمشاهدين حوله، وتسعى إلى تلميع كثير من دعاة السفور والتحلل ومهدري الأوقات من فنانين ولاعبين وغيرهم على أنهم نجوم وأبطال (لقد زخرفت تلك الوسائل جميع القيم الهابطة والمبادئ الرديئة في عيون أبنائنا، فما عادت تجدي النصائح أو القيم التربوية التي يمليها البيت، وتغرسها المدرسة للتناقض الذي يحسه النشء بين ما يشاهد ويسمع ويقرأ في وسائل الإعلام، وبين ما تقدمه المدرسة ويقوم به المنزل.
إن من حق الأجيال والناشئة على قادة الفكر ورجال الأدب والقائمين على الإعلام أن يرسموا لهم منهجاً إعلامياً خاصاً مستمداً من عقيدتهم ومبادئ دينهم الحنيف، ولعل أهم الجوانب التي ينبغي عليهم أن يولوها اهتمامهم ما يلي :
·         صياغة المادة الإعلامية وفق مستوى تفكير الطفل ونوعية ميوله وخصائصه النفسية وحاجاته التربوية رغبة في استثمارها بما يعود عليه بالنفع وينمي ميوله واستعداداته، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : (ما أنت بمحدث قوما حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة(
·         العناية بالأسلوب الفني والطريقة الشائقة في العرض؛ لما لها من أثر في جذب الطفل إلى القراءة والاستماع والمشاهدة والمتابعة والانتفاع بالمادة الإعلامية، قال تعالى : ) وقولوا للناس حسنا(
·         الاهتمام بصحة المضمون وتنوعه؛ فإن مدار صلاح الإعلام وكشف شخصيته على مضمونه، فالوسيلة الإعلامية أداة ذات حدين، لها نتائجها ومحصلتها في توجيه الطفل وتنشئته ورسم مستقبله؛ لذا يمكن صياغة هذا المضمون وفق الحكم الشرعي، وضبطه برقابة حازمة حكيمة تستهدف ما يحقق صلاحه واستقامته، وتربيته على الخير والهدى، وأن جاذبية الإعلام في تنوع موضوعاته وبرامجه يقتضيها تنوع الميول وتعرض الطفل للسأم والملل.
·         بناء الإعلام على أساس أنه وسيلة للرعاية الثقافية النقية من كل دخيل أو غريب على الإسلام التي تمد الطفل بالخبرات والمعارف الأصيلة، وتعرفه بالأفكار والآراء الحديثة، وغير ذلك مما يعود بالنفع والخير عليه، وتحصنه من سموم الأفكار التي تنقلها وسائل الإعلام المنحرفة من غير أن يكون للأمة خياراً فيها ولا رغبة، وتبصرهم بأضرارها ليأخذوا حذرهم منها ومن أمثالها.
المبحث الثاني : وسائل الإعلام المؤثرة في ثقافة الطفل :
نكاد نجزم بأن كل الوسائل الإعلامية مؤثرة مقروءة كانت أم مسموعة أم مشاهدة، وأنه من الضروري أن تعتنى هذه الوسائل بالطفل، وتتفق مع الوسائل التربوية الأخرى من منزل ومدرسة ومسجد على هدف واحد هو إعداد الطفل إعداداً صحيحاً، ورعايته عقديا وفكريا وسلوكيا، (ومن الضروري ـ أيضا ـ أن يكون عمل كل الوسائل ــ الإعلامية متناسقاً ومتكاملاً حتى تتأكد الغاية من الإعلام، وتتحقق رسالته، فإذا كان في المجتمع صحافة ملتزمة ــ بالإسلام ــ فإن التزام باقي الأجهزة الإعلامية يصبح أمراً ضرورياً؛ لأن عدم التزام التلفزيون فيما يعرضه على المشاهد يعزل تلك الصحافة عن المجتمع وبالتالي يبدو التناقض في التأثير، وتكون النتيجة الطبيعية لهذا حيرة وتخبطاً، إذاً لا بد أن التنسيق والتعاون بين هذه الأجهزة والوسائل من خلال سياسة ثابتة ومنهج واضح وخطط مرسومة.
إن الوسائل الإعلامية متفاوتة التأثير، يأتي في مقدمتها الوسيلة المرئية من رسومات في كتاب أو تلفاز؛ لأنها تتعلق بعين الطفل في سنواته الأولى، فنحن نلحظ أن الأطفال مغرمون في بداية تفتح أذهانهم بمطالعة الكتب والقصص المصورة والفيلم لما فيها من جاذبية تشدهم بألوانها الزاهية وصورها البراقة، يقول الباحث بلومري : إن التلفاز والفيلم يستحوذان على اهتمام كامل من جانب الجماهير خاصة الأطفال، ويميلون إلى قبول جميع المعلومات التي تظهر في الأفلام وتبدو واقعية أ هـ، ويمكن إرجاع ذلك إلى أن الطفل يستمد غالباً خبراته ومعارفه عن طريق حاستي العين والأذن، ومن ثم تبقى المادة الإعلامية المصورة في مقدمة ما يجذب انتباه الأطفال، وتعود هذه الجاذبية في نظر ماري وين إلى أن (آليات فسيولوجية معينة في العينين والأذنين والدماغ تستجيب للمثيرات المنبعثة على شاشة التلفزيون بصرف النظر عن المضمون المعرفي للبرامج ـ لذا كان التلفزيون مستأثراً على وقت طويل من حياة الطفل، وفي هذا تقول ماري وين : الواقع أنه ليس هناك تجربة أخرى في حياة الطفل تسمح بمثل هذا القدر الكبير من المشاهدة في حين تقتضي القليل جداً من التدفق الخارجي.
لقد كانت نتائج دراسات علماء الاجتماع والنفس مؤكدة على تأثير التلفاز على ثقافة الأطفال، ومن تلك الدراسات ما قامت به البيرتا سيجل المتخصصة في علم النفس في هذا المجال حيث قالت : لقد ظل العالم مدة غير مهتم بوصول هذا الوسيط إلى منازلنا، إلا أنه بات اليوم مؤكداً أن التلفاز قد غيَّر كثيراً من نظمنا وترتيباتنا الاجتماعية والتربوية أ هـ وهي نتيجة نهائية لدراسات أخرى قد قررت أنه لا مفر من تأثير التلفاز، وأنه أصبح أعظم الوسائل المؤثرة في المعتقدات والاتجاهات والقيم، ومن هذه الدراسات دراسة أجريت بدولة الكويت لمعرفة أثر التلفاز على الأطفال من سن 14-10 سنة، تبين أن %67,1 من عينة البحث التي بلغت (1005 طفلا) يميلون إلى تقليد البطل الذي يشاهدونه في الأفلام والمسلسلات، وأجاب %75,8 من العينة بأنهم يريدون أن يكونوا مثل البطل، وهذه النتيجة توضح أن الطفل لا يميل فقط إلى تقليد البطل بل يرغب في أن يتصف بصفاته، ويتجه اتجاهه، الأمر الذي يعكس ما تبثه أجهزة التلفاز من برامج على شخصية الطفل سلباً وإيجاباً، كما أظهرت بعض الدراسات في مصر أن بعض الأطفال كانوا يقلدون ممثلي فلم مدرسة المشاغبين لفترات ليست بالقصيرة في التمرد على النظام التعليمي وعدم احترام المدرس والأب.
 
إن على التلفاز الذي تبوأ مكانه في الصف الأول بين وسائل الإعلام الأخرى، وبلغ هذه الدرجة من التأثير على الطفل؛ بل وعلى المشاهد عموما أن يكون في المجتمعات الإسلامية أداة فعالة في المساهمة في تنشئة الطفل ورعايته ثقافياً وحماية المجتمع من الفساد القيمي والخلقي، وأن يصون نفسه من أن يكون أداة ضياع وإهدار للأوقات والجهود والأموال، وأن يستشعر دوره على أنه واجهة قوية ومؤثرة على الطفل إلى جانب الأسرة والمسجد والمدرسة، فيخصه ببرامج تثقيفية وتعليمية وترفيهية هادفة ومشبعة لحاجاته، تتناسب مع عقليته وبيئته ومبادئه؛ لتكون بديلا عن تلك الأفلام والبرامج الأجنبية بكل ما فيها من قيم ومفاهيم وتقاليد غربية، وَرَّثت غموضاً وحيرة عند أطفالنا، وتبعية مطلقة لكل وافد.
لقد تحول التلفاز مع التقدم التكنولوجي المذهل في وسائل الاتصالات إلى وسيلة قوية تتجاوز الناحية الإقليمية والحدود السياسية للدول، وتعمل على تقارب المجتمعات، وتصاهر الثقافات، وتداخل الحضارات ــ أصبح حاضر الطفل اليوم مليئا بالتحديات التكنولوجية من خلال الفضائيات المحملة بكل وسائل التأثير الفكري والعقدي والخلقي، فكيف سيعيش الطفل المسلم في هذا العالم المفتوح خاصة إذا تم تعامله مع هذه الوسائل بعيداً عن التحصين الأسري ضد مخاطرها العقدية والأخلاقية والنفسية والصحية، فالأقمار الصناعية اليوم هي أيسر وسيلة لنقل الإرسال إلى قارات بأسرها، وأقواها تأثيراً في تصدير الآراء والأفكار إلى الشعوب؛ أترى سيعيش الطفل حبيس والديه ومنزله، معزولاً عن هذه الوسيلة المنتشرة التي اخترقت الحجب والآفاق، وأصبحت تحت السمع والبصر؟ إن بعض الناس قد يرفض هذه الوسيلة بسبب العجز من المواجهة، وبعضهم قد يُقْبل عليها بسبب العجز عن الحصول على البديل، وكلا الأمرين استسلام إلا أن الرفض قد يُعََدُّ نوعاً من الحيطة، والإقبال نوعاً من الارتخاء.
لكن الحقيقة التي لا يجوز أن نعيش بعيدين عنها في ظل توهم المفسدة والتخوف منها ؛ وهما سلبيتان تعودنا عليهما معشر المسلمين في التعامل مع الجديد الذي غالباً ما ينتهي بقبولنا له على أنه مما عمت به البلوى دون غربلة وتمحيص تؤديان إلى اصطفاء الملائم لديننا ثم لمصلحتنا وتطويره، الحقيقة التي ينبغي أن نضعها في حساباتنا الحاضرة والمستقبلية وفي تقديرنا للأمور (أن التلفزيون في ــ عصرنا الحاضر ــ عصر البث الفضائي سيكون الأكثر سيطرة على الرأي العام، والأهم في صياغة عقلية المجتمع وتفكيره وسلوكياته، والأخطر من ذلك أنه سيكون له دور كبير في التأثير على العقائد والأخلاقيات وعلى رؤية الإنسان أيا كان؛ لواقعه ولمستقبله ولمسلماته وقناعاته، ولعل ذلك سيكون أكثر أهمية وخطورة على الأجيال التي يتشكل وعيها وتكوينها على هذا البث المكثف(
إن التقدم الإعلامي التكنولوجي لم يقتصر على التلفاز وحده، وإن كان أكثر حظاً من غيره؛ بل تقدمت كل وسائل الإعلام في معيته، فأصبحت المجلات والصحف على جانب من الأناقة والجاذبية وسرعة في نشر الخبر وتوظيف المعلومة وحسن العرض، وصارت القصة ذات شأن عظيم وتأثير منقطع النظير مع تطور أساليب التعليم والتربية والعناية بالأدب الموجه وحسن إخراجها المقرون بالوسيلة والرسوم المعبرة، وحاولت الإذاعة أن تحافظ على مكانتها الإعلامية عن طريق تنوع برامجها الخاصة بالأطفال، واعتمادها على مساهمتهم المباشرة كتابة ومهاتفة، ومع تطور هذه الوسائل ظهرت وسيلة إعلام جديدة، هي شبكة الأنترنيت التي (تحولت بالنسبة إلى أطفالنا إلى ساحر جديد يستهلك أوقاتهم، ويضع أمامهم مجالات واسعة للمعرفة والثقافة، ولكنها في الوقت نفسه تكشف جوانب أخرى سلبية لمغامرة غير مأمونة العواقب، وهذا يشكل تهديداً قوياً على سلوكيات أطفالنا، ويجعلهم عرضة لنوعيات مختلفة من المعلومات والصور والأحداث التي لا تتناسب مع مراحلهم العمرية(
وهكذا فإن التطورات التي حصلت في وسائل الإعلام جعلتها أجهزة مؤثرة، ومشاركة بقوة وفاعلية في تربية الأفراد وبناء المجتمع وصياغة مسارات الدول، ولكن استثمار هذا التطور يبقى رهين ما تؤديه هذه الوسائل من وظيفة

المصدر:يوم جديد كنانه أونلاين