الإسلام وانهيار الفكر القومي

النزعة القبلية وانحطاط القيم: منذ البدء طرح الفكر الإسلامي رؤيا شمولية لعلاقة الشريعة بالإنسان متجاوزا الفكر الضيق للشكل القبلي في ترسيم تلك العلاقة، وهو في هذه الحالة يمثل انفتاحا لا متناهيا على الوجود فيصبح من المجحف حصره في قوالب ضيقة...



ففي الوقت الذي تبنى فيه المجتمع القبلي مفاهيما وقيما تنحصر في حدود الأفراد، والجماعات التي تتحرك في رقعة جغرافية محددة، جاء الإسلام ليقدم مفاهيما تتجاوب مع تطلعات الإنسان نحو المستقبل، وتفسر علاقاته مع الوجود اللا متناهي وهو يطرح هذا التفسير الكلي في ضوء قانون السنن الإلهية المستوعبة لحركة التاريخ، باعتبار إن هذه السنن تجسد إرادة الله، وهي في الوقت نفسه تقدم الإنسان كصانع للتاريخ من خلال القيم الأخلاقية والدينية التي دعت إليها الشريعة. ومن هنا يتجاوز الإنسان مفهوم التبعية للمكان، ولجماعة بشرية محددة، باعتبار كونية المشروع الحضاري الذي دعت إليه الشريعة السماوية، وهكذا نجد ذلك التناقض الحاد بين النزعة القبلية التي دعت إليها مدرسة الخلافة، والتي سعت إلى تكريس مكاسب زعامات وهمية اكتسبت قوتها من قيم منحطة سادت في العصر الجاهلي ثم رفضت التخلي عنها، وبين النظرة المستقبلية للفكر الإسلامي والذي دعا إلى كونية الأمة الإسلامية من خلال شمولية الشريعة التي رتبت علاقات الإنسان بالوجود.

يطرح الإسلام فكرة الإنسان الخليفة باعتباره مجسدا لإرادة الله على الأرض، وحيث أن الإرادة الإلهية تتصف بالشمولية، فان حركة الإنسان عبر التاريخ تستوعب الزمان والمكان مما يكشف تهافت فكرة حصر الموقف في دائرة الجماعة، أو الرقعة الجغرافية المحددة، وإذا كان الاتجاه القبلي الذي أولد الفكر القومي قد تمكن في مرحلة من مراحل الصراع أن يفرض مفاهيم الولاء للقبيلة وللعرق، أو الخضوع لإرادة أصحاب السلطة والمال متجاهلا حركة المجتمع نحو التطور، فان الفكر الإسلامي جاء على النقيض عبر طرح مفاهيم أوسع، وتبني قيما أعلى لتسمو بالإنسان باعتباره خليفة، ومحققا لإرادة الله، ولتحقيق كل ذلك جعل الخالق معايير تتجاوز في مفاهيمها الاعتبارات القبلية الضيقة فقال سبحانه: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير) الحجرات/13، فهنا يصبح المعيار هو التقوى وليس الولاء القبلي أو الغنى والسطوة. والقران يقدم الإسلام كأمة تنضوي تحت لوائها كل الأعراق لتنصهر كلها في بوتقة العقيدة الإسلامية: (كنتم خير امة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله..) آل عمران/110، ما يقدم وصفا إسلاميا لمفهوم الأمة خارج حدود الجزئية.

الفكر القومي وانهيار الحضارات

لقد سعى الفكر القومي إلى تحجيم الإسلام من خلال علاقة نظرية القومية العربية بالفكر الإسلامي باعتبارها علاقة متلازمة لا يمكن فصلها وإلا ينهار البناء ككل، وهنا يقصد به الفكر الإسلامي، وقد شوهت هذه الاتجاهات الإسلام فكرا وعقيدة، وأضرت بعملية التطور التي سعت إليها الشريعة الإسلامية برؤيتها الكونية، وأدت إلى تحديد وتحجيم الفكر الإسلامي بربطه بالاتجاه القومي والذي سيؤدي بالتالي إلى عزلة المجتمع الإسلامي في رقعة جغرافية ضيقة، وحصر هذه العقيدة الشمولية بجماعة بشرية محددة وبالتالي سيؤول الحال إلى ما آل إليه حال بنو إسرائيل الذين اخضعوا كل شي لاتجاههم الفكري القومي، وصاغوا تفسيرهم للشريعة بما يتناسب والفكر اليهودي القومي وبذلك افرغوا الشريعة من مفهومها العام، وهذا ما يسعى إليه أصحاب الفكر القومي العربي من إضعاف الفكر الإسلامي عبر الصياغات القومية الضيقة، وطرح مفاهيم لا تتفق ومعايير الشريعة الإسلامية الشمولية، فالفكر القومي يفسر الأمة اعتمادا على العرق، بينما ينفتح الفكر الإسلامي على الكل ليقدم تفسيرا أعمق وأكثر شمولية لمفهوم الأمة من خلال حركة التاريخ باعتبارها (خير أمة أخرجت للناس) تسعى في حركتها نحو الكونية، ولا تتقيد بالعرقية الضيقة، والإسلام يقدم الأمة باعتبارها مشروعا مستقبليا يتجاوز محدودية الموقف القبلي.

في مرحلة الصراع الاستعماري حاول الفكر الغربي، ومن تمثل به من أصحاب الحداثة، ثم العلمانية وأخيرا العولمة، تجريد الأمة الإسلامية من هويتها الفكرية، وبالتالي إحباط المشروع الحضاري الذي سيتكامل بظهور الإمام الحجة (المهدي المنتظر) عجل الله فرجة الشريف، عن طريق إيجاد قطيعة بين الأمة الإسلامية والعقيدة، عبر طروحات الإسلام القومي، مكرسين فكرة قومية الإسلام، وبالتالي إفراغه من الشكل الشمولي وبخاصة بعد ثبات الفكر الإسلامي أمام متغيرات الحياة، واستيعابه التام لكل النظريات والطروحات والتي نقضها من خلال صموده أمام أفكار نظرية التحدي والاستجابة، وقد حاول النظام الدولي إجهاض المشروع الحضاري للأمة الإسلامية عبر محاولة إشغالها بالصراعات القومية وبخاصة بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران، التي قدمت أنموذجا حيا لما يمكن أن تحققه العقيدة الإسلامية في انفتاحها وتحررها من القيود، وان كان ما حققته الجمهورية الإسلامية هو اقل من مستوى الطموح إلا انه كان كافيا لإثارة الرعب في نفوس أصحاب النظرية المادية، وأتباع المدرسة القومية.

تكشف لنا حركة التاريخ ما آلت إليه المؤسسات التي بنيت وفق الاتجاه القومي، فالدويلة اليهودية التي فسرت العقيدة من خلال المفاهيم القومية حتى أفرغتها من محتواها الحقيقي لا تمتلك مقومات الدولة الحقيقية، كما إنها لا تمتلك عناصر الاستمرار ولهذا تعتمد القوة العسكرية في استمرار وجودها الذي أصبح مرهونا بقبول العالم الغربي لها بعد ظهور طروحات تدعو إلى الخلاص منها للحفاظ على الأمن الدولي، وفي الاتجاه نفسه تحركت الدولة النازية بتبنيها لمفاهيم القومية الألمانية فلاقت هزيمتها في الحرب الثانية، وفشلت في طرح الأنموذج المثالي الذي سعت إليه عبر العنصر الألماني النازي، وفي العراق كما في بقية الدول العربية تخلى اتباع النهج القومي عن العقيدة الإسلامية لصالح قوميتهم الضيقة، وحتى في حالات تبنيهم لأفكار إسلامية تحقيقا لأغراضهم فقد اظهر التاريخ فشلهم الذريع لأنهم واجهوا مشكلة أساسية إما الإبقاء على الفكر الإسلامي والذي يرفض الاتجاه القومي الضيق، أو التخلي عن طموحاتهم القومية لصالح الإسلام، فاختاروا الاتجاه القومي وناصبوا الفكر الإسلامي الأصيل (مذهب أهل البيت عليهم السلام) العداء، مما أسفر عن صراع عنيف حاولت السلطات المتبنية للاتجاه القومي من خلاله تحطيم الفكر الإسلامي المتمثل في المرجعية وقياداتها.

لقد فشل الاتجاه القومي في تأسيس دولة تمتلك مقومات الاستمرار، بل انه لم يقدم مشروعا حضاريا يضع الإنسان على المسار الصحيح، على العكس من ذلك كان المشروع الحضاري الإسلامي المتسم بالشمولية ينفتح على المستقبل وهو لا يعتمد إطلاقا على ردود الأفعال بل يتبنى منهجا خلاقا يمتلك مقومات حضارية تستمد أصالتها من أصالة العقيدة الإلهية، ويقف خارج مفاهيم الصراع الضيق بين الإنتاج والاستهلاك بعد أن جعل للأمة قيمة عليا باعتبارها تمتلك مقومات الاستمرارية في تطلعها المشروع نحو المستقبل.

د. وليد سعيد البياتي 
الرأي الآخر للدراسات - لندن