الإسلام والغناء والموسيقى

"الإسلام دين واقعي, فهو يتعامل مع الإنسان كله: جسمه وروحه وعقله ووجدانه, ويُطالبه بأن يغذيها جميعاً بما يشبع حاجتها، في حدود الاعتدال ... وإذا كانت الرياضة تغذي الجسم, والعبادة تغذي الروح، والعلم يغذي العقل, فإنَّ الفن يغذي الوجدان ... ونريد بالفن: النوع الراقي منه، الذي يسمو بالإنسان، لا الذي يهبط به"



 

 

 

والفن أمرٌ بالشعور والوجدان أكثر مما يتصل بالعقل والفكر، فكان أكثر قبولاً للتطرف والإسراف من ناحية، في مقابلة التشدد والتزمُّت من ناحية أخرى. 

 

والفن والجمال المسموع هو الغناء والموسيقى وهو ما يطرب الإنسان لسماعه. "ويقول الأمام الغزالي: وإن تأثير السماع في القلب محسوس, ومن لم يحّركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال, بعيد عن الروحانية, زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجِمال  والطيور بل على جميع البهائم، فإنها جميعاً تتأثر بالنغمات الموزونة.

وصدق الإمام الغزالي ففي عصرنا يُسمعون بعض الأبقار الموسيقى عند حلبها فتدرّ اللبن بسهولة وغزارة. بل جرَّبوا تأثير الموسيقى على بعض النباتات فوجدوها تنمو بصورة أوضح وبسرعةٍ أكبر".

أما الكندي فيلسوف الإسلام (أبو يوسف يعقوب ابن اسحاق الكندي 801-867م) والذي أّلف سبع رسالات في الموسيقى وتصوير النغمات. فقد كان يعتقد أن بعض النغمات تقبض النفس, وبعضها يبسطها, وأن في النغمات ما يثير في النفس الأشجان, ومنها ما يُذهب عنها الأحزان, ولهذا فإنه كان يعالج الكثير من المرضى المصابين بالأمراض النفسية بالموسيقى.

 

وإن قيل أنَّ هذا لهوٌ، واللهو حماقة, فإن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "رَوِّحوا القلوبَ ساعةً بعد ساعة فإن القلوبَ إذا كلَّت عَميَت". وقال أيضاً رضي الله عنه: "إن القلوبَ تملّ كما تملُّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة". وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "إني لأستجِمُّ نفسي بالشيء من اللهو ليكون أقوى لها على الحق".

"فاللهو دواء القلب من داء الإعياء والإملال، فينبغي أن يكون مباحاً ولكن لا ينبغي أن يُستكثر من الدواء، فإذن اللهو على هذه النيّة يصير قربة".

وقد قال صلى الله عليه وسلم: "... فَإِنَّ الأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمُ اللَّهْوُ" رواه البخاري عن السيدة عائشة. وسمح للحبشة أن يرقصوا بحرابهم في مسجده، ووقف مع السيدة عائشة ليريها لعبهم. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بَيْنَما الحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِحِرَابِهِمْ دَخَلَ عُمَرُ، فَأَهْوَى إِلَى الحَصَى فَحَصَبَهُمْ بِها، فقالَ صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُمْ يَا عُمَرُ" رواه الشيخان.

وقال صلى الله عليه وسلم: "يا حَنْظَلَة! سَاْعَةٌ وَسَاعَةٌ" رواه مسلم. "والتزم بالترويح والترفيه في أوقات معينة, ودون إهدارٍ وتقطيع للوقت وطغيان على البرامج الجادة مع الالتزام بالضوابط الشرعية والخلقية بعيداً عن كل ما ينافي ويخالف الشرع ويفسد الأخلاق".

 أما أن يقضي الإنسان جُلَّ وقته في اللهو فهذا ما قال فيه الإمام الغزالي: «إن المواظبة على اللهو جناية ».

 

حكم الإسلام في الغناء والموسيقى: 
 
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ" رواه مسلم. "وإذا كان الإسلام قد دعا إلى الإحساس بالجمال وتذوقه وحبه، فإنه قد شرع التعبير عن هذا الإحساس والتذوق والحب بما هو جميل أيضاً. وأبرز ما يتجلى ذلك في فنون القول من الشعر والنثر والمقامة والقصة والملحمة، وقد استمع r إلى الشعر وتأثّر به". ولا مانع من تغيير القوالب التي يظهر فيها الشعر أو الأدب أو .... ، واقتباس ما يلائمنا مما عند غيرنا، ولكن المهم هو الهدف والمضمون والوظيفة.

 

"هي مسألةٌ ثار فيها الجدل والكلام بين علماء الإسلام منذ العصور الأولى فاتفقوا في مواضع واختلفوا في أخرى. اتفقوا على تحريم كلِّ غناء يشتمل على فحشٍ أو فسقٍ أو تحريضٍ على معصية ... واتفقوا على إباحة ما خلا ذلك من الغناء الفطري الخالي من الآلات والإثارة وذلك في مواطن السَّهر المشروعة كالعرس وقدوم الغائب وأيام الأعياد، ....، ونحوها، بشرط ألا يكون المغني امرأة في حضرة أجانب منها".

فإذن ليس كل غناء لغواً، "إنه يأخذ حكمه وفق نية صاحبه فالنية الصالحة تجعل اللهو قربة، والمباح طاعة". "وقد نظر المحققون من العلماء في تحريم الغناء, فلم يجدوا له علَّة مقنعة, ولعلّ أبرز من نظر في ذلك نظرة علمية تحليلية هو أبو حامد الغَّزالي رحمه الله في الإحياء ... لنزداد اقتناعاً أنه لا وجه لتحريم الغناء شرعاً بل ولا الآلات". وقد ذكر الغزالي في إحيائه حكمَ السَّماع فقال: "لا يدل على تحريم السماع نصّ ولا قياس".

"أما بالنسبة لصوت المرأة فليس هناك دليل شرعي ولا شبه دليل من دين الله أن صوت المرأة عورة، وقد كان النساء يسألن رسول الله صلى الله عليه وسلمفي ملأٍ من أصحابه, وكان الصحابة يذهبون إلى أمهات المؤمنين ويسألونهنّ".

وفي الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمع غناء الجاريتين ولم ينكر عليهما, فعن عائشة رضي الله عنها قالت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وعِندي جَارِيتَان، تُغَنِّيانِ بِغِنَاءِ بُعَاث, فَاِضْطَجَعَ على الفرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، ودخَلَ أبو بكرٍ فَانْتَهَزَنِي، وقالَ: مزمارةُ الشَّيطانِ عِندَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ، فأَقْبَلَ علَيهِ رَسُولُ اللهِ عَلَيْهِ السَّلامُ فقال: "دَعْهُمَا". متفق عليه.

(تغنيان بغناء بعاث) تنشدان وترفعان أصواتهما بما قاله العرب في يوم بعاث، وهو حصن وقع عنده مقتلة عظيمة بين الأوس والخزرج في الجاهلية

"وقد سمع ابن جعفر وغيره من الصحابة الجواري يغنِّين". ويمكن الرجوع إلى كتاب الدكتور القرضاوي "فقه الغناء والموسيقى في ضوء القرآن والسنة" لمزيد من التفصيل وقد ذكر فيه من أجاز الغناء وسمعه من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين.

والخلاصة أن "الأحاديث التي استدل بها القائلون بالتحريم إما صحيح غير صريح أو صريح غير صحيح, ولم يسلم منها حديث صريح واحد مرفوع إلى رسول الله يصلح دليلاً للتحريم". فلا حرام في الإسلام إلا الخبيث الضار  قال الله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ % قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف:7/32-33]. وقال I في الآية 157: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ...﴾[الأعراف:7/157]. ولا شيء في الغناء إلا أنه من طيبات الدنيا التي تستلذها الأنفس, وتستطيبها العقول, وتستحسنها الفطر, وتشتهيها الأسماع.

أما ما ورد من تحريم فالسبب فيه ضغط الواقع الغنائي بما يلامسه من انحراف وتجاوز، كان له أثره ترجيح المنع والتحريم, حيث اختلط الغناء بملابسة الفجور وشرب الخمور وقول الزور وتلاعب الجواري الحسان المغنيات (القيان) بعقول الحضور". أو ما كان من غناء الصوفية الذي اختلط بالبدع.

ولهذا فقد وضع العلماء قيود وضوابط لا بد من مراعاتها نلخّصها فيما يلي:

  1. سلامة مضمون الغناء من المخالفة الشرعية.

  2. سلامة طريق الأداء من الإغراء.

  3. عدم اقتران الغناء بأمر محرم.

  4. تجنب الإسراف في السماع.

  5. ما يتعلق بالمستمع فيجب ألا تكون الشهوة غالبة عليه, ولا يغريه بالفتنة.

وبالتالي فإن "الغناء بصورته التي يُقدَّم بها اليوم في معظم التلفزيونات العربية والفضائية بما يصحبُه من رقص وخلاعة وصور مثيرة لفتيات مائلات مميلات، كاسيات عاريات، أو عاريات غير كاسيات، أصبحت ملازمة للأغنية المرئية ... الغناء بهذه الصورة قد غدا في عداد المحرمات بيقين، لا لذاته ولكن لما يَصحبُه من هذه المثيرات والمضلّات، فقد تحوَّل الغناء من شيءٍ يُسمعُ إلى شيء يُرى, وبعبارة أخرى: تحوَّل من غناء إلى رقص خليع".

 

المراجع:

1.       القرضاوي, د.يوسف: فقه الغناء والموسيقى في ضوء القرآن والسنة. مكتبة وهبة, مطبعة مدني, القاهرة, 1422هـ-2001م.

2.       الغزالي, أبي حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي: إحياء علوم الدين. دار الوعي, حلب, 1419هـ-1998م. [5].

3.       الدفاع, علي: العلوم البحتة في الحضارة العربية والإسلامية. مؤسسة الرسالة, بيروت, 1401هـ/1981م.

4.       البخاري, أبي عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي (194-256هـ): الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله r وسننه و أيامه. تحقيق د. مصطفى ديب البغا. دار العلوم الإنسانية, دمشق, ط2, 1413هـ-1993م. [4].

 

5.       مسلم, بن الحجاج النيسابوري القشيري (204-261هـ): صحيح مسلم بشرح الإمام محي الدين بن شرف النووي. تحقيق د. مصطفى ديب البغا. دار العلوم الإنسانية, دمشق, 1418هـ-1997م. [7].

 

 

 بقلم : ضحى فتاحي

المصدر: زاد ترين