الإسلام بريء

 

 الإسلام بريء من الفرقة الحادثة بين المسلمين، وهم وحدهم الذين يتحملون مآسيها في الدنيا والآخرة. إن المجتمع المسلم المتآخي الذي يصوغه الإسلام مجتمع واحد. في عقائده الإيمانية، وفي شعائره التعبدية، وفي مفاهيمه الفكرية، وفي فضائله الأخلاقية، وفي اتجاهاته النفسية، وآدابه السلوكية، وفي تقاليده الاجتماعية، وفي قيمه الإنسانية، وفي أسسه التشريعية. واحد في أهدافه التي تصل الأرض بالسماء، والدنيا بالآخرة، والخلق بالخالق، وفي المثل الأعلى الذي يستمد منه الأسوة الحسنة، وهو رسول الله صلي الله عليه وسلم.



 

فهو مجتمع يؤمن برب واحد، وكتاب واحد، ورسول واحد، ويتجه إلي قبله واحدة بشعائر واحدة، ويحتكم في كل أموره إلي شريعة واحدة: وولاؤه – حيث كان – ولاء واحداً، لله ولرسوله ولأمة الإسلام. في الله يحب، وفيه يبغض، وفيه يصل، وفيه يقطع:" لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم" المجادلة 22. ولا ينبغي أن تفرق المجتمعات الأخرى من العصبية للجنس أو للون أو الوطن أو اللغة أو الطبقة أو المذهب، أو غير ذلك مما يمزق الجماعات. فالأخوة الإسلامية فوق كل العصبيات أيّا كان اسمها ونوعها. ورسول الله – صلي الله عليه وسلم -  بريء من كل العصبيات فقال: "ليس منّا من دعا إلى عصبية، وليس منّا من مات على عصبية"رواه أبو داود عن جبير بن مطعم. 

والقرآن يحذر من دسائس غير المسلمين الذين يكيدون لهم ليفرقوا كلمتهم ويمزقوا وحدتهم، كما فعل ذلك اليهود في الإيقاع بين الأوس والخزرج بعد أن جمعهم الله على الإسلام حيث قال تعالى :"يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين. وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله، ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم" آل عمران (100-101). إلى أن قال "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون" آل عمران 103. وفي هذا السياق حذر من التفرق والاختلاف فقال: "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وأولئك لهم عذاب عظيم" آل عمران 105.

وبين آية الأمر بالاعتصام بحبل الله وآية التحذير من التفرق والاختلاف، ذُكرت آية تكليف الأمة بالدعوة والأمر والنهي: "ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون" آل عمران 104. وهذا يدلنا على أن الذي يوحد الأمة ويجمع شتاتها: وجود منهج موحد تعتصم به وترجع إليه، وهو هنا حبل الله: الإسلام والقرآن، ووجود رسالة مشتركة تشتغل بها، وتجعلها أكبر همها، وهي هنا الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أما إذا قعدت الأمة عن الرسالة، أو فقدت المنهج، فإن السبل ستتفرق بها عن يمين وشمال، والشياطين ستتجاذبها من شرق وغرب، وهو ما حذر منه القرآن بقوله: "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون" الأنعام 153.

والوحدة المفروضة في الأمة المسلمة لا تعارض التنوع الذي يقتضيه اختلاف البيئات والأعراف بتأثير الحضارات المختلفة، والمواريث الثقافية المتعددة. فهو تنوع في إطار الوحدة الجامعة، وهو أشبه بتنوع المواهب والميول والأفكار والتخصصات داخل الأسرة الواحدة: "يسقى بماء واحد ونفضل بعضها علي بعض في الأكل" الرعد 4.  ومن لوازم الوحدة: التعاون والتراحم والتناصر، إذ ما قيمة الوحدة إذا لم تعاون أخاك عند الحاجة، وتنصره عند الشدة، وترحمه عند الضعف؟ لقد صور رسول الله صلي الله عليه وسلم مبلغ التعاون والترابط بين أبناء المجتمع المسلم بعضه وبعض هذا التصوير البليغ المعبر حين قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا"، وشبك بين أصابعه، فاللبنة وحدها ضعيفة مهما تكن متانتها، وآلاف اللبنات المبعثرة المتناثرة لا تصنع شيئاً، ولا تكون بناء. إنما يتكون البناء القوي من اللبنات المتماسكة المتراصة في صفوف منتظمة، وفق قانون معلوم، عندئذ يتكون من اللبنات جدار متين، ومن مجموع الجدر بيت مكين، يصعب أن تنال منه أيدي الهدامين.

كما صور مبلغ تراحم المجتمع وتكامله، وتعاطف بعضه مع بعض بقوله: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر"، فهو ترابط عضوي، لا يستغني فيه جزء عن آخر، ولا ينفصل عنه، ولا يحيا بدونه، فلا يستغني الجهاز التنفسي عن الجهاز الهضمي، أو كلاهما عن الجهاز العصبي، فكل جزء متمم للآخر، وبتعاون الأجزاء وتلاحمها يحيا الكل، ويستمر نماؤه وعطاؤه.

ويدخل في نصرة المسلم للمسلم عنصراً جديداً حين يقول: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، قيل: ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً يا رسول الله؟ قال: "تأخذ فوق يديه، أو تمنعه من الظلم فذلك نصر له". والقرآن الكريم يوجب التعاون ويأمر به بشرط أن يكون تعاوناً علي البر. الجزر المنعزلة، ما هي الجزر المنعزلة؟ إنها الجزر التي لا يربطها ببعضها البعض رابط، فكل جزيرة يحيط بها البحر من كل الاتجاهات بالشكل الذي يجعل التواصل المادي بينها عبر الطرق الأرضية منعدم. وهذه هي الظاهرة رغم أنها أصلاً ظاهرة جغرافية إلا أنها من الممكن أن تكون إنسانية. من الممكن أن يتحول البشر إلى جزر منعزلة إما جماعات أو حتى فرادى.

وأقول لكم كيف! يحدث ذلك إذا لم يتواصل الناس فيما بينهم تواصلاً مادياً، أو نفسياً، أو فكرياً، إن الفرد الذي يحزن أو يفرح ولا يجد من يشاركه حزنه أو فرحته. والفرد الذي يدور في ذهنه منطق أو فكرة ولا يجد من يشاركه فيها أخذاً وطرحاً، والفرد الذي يعاني بتكلف العيش أو يقع في كربه ولا يجد من يحنو عليه فيها، كلهم صاحب الموضوع ومن حوله يكونون جزراً منفصلة يحيط بكل واحد منهم بحر مظلم من التجاهل وعدم الأكثراث، وعدم الإحساس، وعدم التواصل. وبالطبع فإن هذه العلاقة علاقة غير مرضية بالنسبة للإسلام الذي يحرص كل الحرص على تواصل كل الناس فيما بينهم وبالأخص المسلمين المنتمين له. إن الإسلام يقرب المسافات بين الجزر المنعزلة ليس ذلك فقط بل إنه يعمل على تلاحمها وتماسكها، وهو يفعل ذلك عن طريق التكافل! التكافل المادي والأدبي واسمحوا لي أن أفصل في الموضوع:

إن التكافل بين أبناء المجتمع المسلم، وهو تكافل مادي ومعنوي، اقتصادي وسياسي، عسكري ومدني، اجتماعي وثقافي. يبدأ هذا التكافل بين الأقارب بعضهم وبعض، كما يفصل ذلك نظام النفقات في شريعة الإسلام. فالقريب الموسر ينفق على قريبه المعسر وفوق شروط وأحكام مفصلة في الفقه الإسلامي، كما قال الله تعالى: "وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله" الأنفال 75. ثم تتسع دائرة هذا التكافل لتشمل الجيران وأبناء الحي الواحد في البلد الواحد، يقتضي حق الجوار، الذي أكده الإسلام، وفي الحديث: "ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع". وفي الحديث الآخر: "أيما أهل عرصة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله".

ثم تتسع أكثر وأكثر بحيث تشمل الإقليم عن طريق الزكاة، التي أمر صلي الله عليه وسلم أن تؤخذ من أغنياء كل إقليم لترد على فقرائه، فوضع بذلك أساس التوزيع المحلي، على عكس ما كان يصنع في الحضارات السابقة على الإسلام، فقد كانت الضرائب تؤخذ من مزارعي ومحترفي الأقاليم النائية والقرى البعيدة، لتوزع في المدن الكبيرة، ولا سيما عاصمة الملك أو الإمبراطور. ثم تزداد اتساعاً ليشمل التكافل المجتمع كله.

ومنذ فجر الدعوة إلي الإسلام في مكة، والمسلمون أفراد معدودون مضطهدون، ليس لهم كيان ولا سلطان، كان القرآن يدعو بقوة إلى هذا التكافل بجعل المجتمع كالأسرة الواحدة، يصب الواجد فيه على المحروم، ويحمل فيه الغني الفقير. ولم يجعل القرآن ذلك شيئاً من نوافل الدين، يقوم به من ترقى في درجات الإيمان والإحسان، ولا يطالب به الشخص العادي من الناس. بل اعتبره الدين أمراً أساسياً من دعائم الدين، لا يحظى برضا الله من لم يقم به، قال تعالى: "فلا اقتحم العقبة. وما أدراك ما العقبة. فك رقبة. أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيماً ذا مقربة. أو مسكيناً ذا متربة. ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة" البلد (11-17). وقال تعالى: "كل نفس بما كسبت رهينة. إلا أصحاب اليمين. في جنات يتساءلون. عن المجرمين. ما سلككم في سقر. قالوا لم نك من المصلين. ولم نك نطعم المسكين..." المدثر (38-44).

فجعل مصيرهم النار: لأنهم أضاعوا حق الله بإضاعة الصلاة، وأضاعوا حق عباده، إذ لم يطعموا المسكين. وإطعام المسكين كناية عن رعاية ضروراته وحاجاته، إذ لا معنى لأن نطعم المسكين وندعه مشرداً بلا مأوى، أو عرياناً بلا كسوة، أو مريضاً بلا علاج. ولم يكتف القرآن بإيجاب إطعام المسكين، بل زاد على ذلك فأوجب الحض على إطعامه، والحث على رعايته. قال تعالى: "أرأيت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدع اليتيم. ولا يحض علي طعام المسكين" الماعون(1-3). ويجعل ذلك مع الكفر من موجبات العذاب، فيقول: "خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه" الحاقة (30-33).

ثم يذكر أسباب هذا الحكم الشديد، فيقول:" إنه كان لا يؤمن بالله العظيم. ولا يحض على طعام المسكين" الحاقة (33-34). ويزيد علي ذلك فيوجب في المال حقاً معلوماً، ليس بصدقة تطوعية، ولا بإحسان اختياري، من شاء أداه، ومن شاء تركه، بل "حق" – أي " دين" – في عنق المكلفين، وحق معلوم غير مجهول، كما في قوله تعالى في وصف المتقين:"وفي أموالهم حق للسائل والمحروم"الذاريات19. وفي سورة أخرى يصف الحق بالمعلومية فيقول: " والذين في أموالهم حق معلوم. للسائل والمحروم" المعارج (24-25). وفي الحديث عن الزروع والثمار، والجنات المعروشات، يقول سبحانه:" كلوا من ثمره إذا أثمر وأتوا حقه يوم حصاده" الأنعام141. وهذا الحق هو الزكاة، التي فرضت في مكة غير محددة ولا مفصلة.

كل هذا في القرآن المكي، فلما أصبح للمسلمين دولة وسلطان، حددت أنصبة الزكاة ومقاديرها بوضوح، وبعث السعاة ليجمعوها من أهلها، ويصرفوها في محلها. وهم الذين سماهم القرآن: "العاملين عليها"، وجعل لهم نصيباً من حصيلة الزكاة نفسها ، ضماناً لحسن تحصيلها وتوزيعها. ووصل الإسلام بهذه الفريضة المالية إلى أعلى درجات الإلزام الخلقي والتشريعي، فجعلها ثالث أركان الإسلام، وأوجب أخذها، إن لم تدفع طوعاً، وهذا التكافل المادي أو المعيشي ليس هو كل ما طلبه الإسلام في هذا المجال، بل هناك أنواع أخرى من التكافل، ذكرها أحد الفقهاء المعاصرين – رحمه الله – وجعلها بالتكافل المعيشي عشرة كاملة، فشملت: التكافل الأدبي، والعلمي، والسياسي، والدفاعي، والجنائي، والأخلاقي، والاقتصادي، والعبادي، والحضاري، والمعاشي، الذي اختص اليوم باسم "التكافل الاجتماعي".

إن الإسلام لا يعرف الطبقية التي تجعل طبقة من الناس معزولة عن الأخرى متعالية عليها ولا يربطها بها رابط إلا رابط الحاجة والاستغلال أو الحسد والحقد إن الإسلام عندما أمر بالإخاء أمر به ليشمل كل فئات المجتمع، فليس هناك فئة من الناس أعلى من أن تؤاخي الآخرين، ولا فئة أهون من أن يؤاخيها الآخرون، لا يجوز أن يكون المال أو المنصب أو النسب، أو أي وضع اجتماعي أو مادي أو غير مادي سبباً لاستعلاء بعض الناس على بعض. فالحاكم أخو المحكوم، والراعي أخ لرعيته، وفي الحديث: " خيار أئمتكم الذي تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم، ويصلون عليكم (أي تدعون لهم، ويدعون لكم) وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم، ويلعنونكم".

والسيد أخ لعبده، وإن أوجبت ظروف خاصة أن يكون تحت يده. وفي الصحيح: "إخوانكم خولكم (أي خدمكم) جعلهم الله تحت أيديكم، ولو شاء جعلكم تحت أيديهم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، ويلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، فإن كلفتموهم فأعينوهم". والأغنياء والفقراء، والعمال وأرباب العمل، والملاك والمستأجرون، كلهم أخوة بعضهم لبعض، فلا مجال – في ضوء تعاليم الإسلام – لصراع اجتماعي، أو حقد طبقي. بل لا يوجد في المجتمع الإسلامي طبقات، كما عرف ذلك في المجتمع الغربي في العصور الوسطى، الذي عرف طبقات النبلاء والفرسان، ورجال الدين وغيرهم، وكانت هذه الطبقية تتوارث بحكم القيم والتقاليد والقوانين السائدة. 

ولا زالت بعض الأمم إلى اليوم تتوارث الطبقية بحكم عقائدها وأعرافها وأنظمتها. صحيح أنه يوجد في الإسلام أغنياء، ولكنهم لا يكونون طبقة تتوارث الغنى، بل هم أفراد يجري عليهم ما يجري على غيرهم، فالغني قد يفتقر، كما أن الفقير قد يغتني: "فإن مع العسر يسرا". وصحيح أنه يوجد في الإسلام "علماء دين" ولكنهم لا يكونون طبقة تتوارث هذه المهنة، بل هي وظيفة مفتوحة لكل من حصل مؤهلاتها من العلم والدراسة، وهي على كل حال ليست وظيفة كهنوتية، إنما هي وظيفة تعليم ودعوة وإفتاء، لا أكثر من ذلك إن الله تعالي كان يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنما أنت مذكر. لست عليهم بمصيطر" الغاشية (21-22).، "نحن أعلم بما يقولون، وما أنت عليهم بجبار، فذكر بالقرآن من يخاف وعيد" ق 45.

وطبيعي لورثة الأنبياء أن يتأدبوا بما أدب به الأنبياء وألا يتعدوا في ذلك! وما ذكرته في حق ورثة الأنبياء ينطبق من باب أولى على غيرهم من الناس كل في مجاله! أنا شخصياً لا أحب أن أعيش في جزيرة منعزلة لا أشعر فيها بأحد، ولا يشعر بي أحد إنما أحب أن أعيش وسط الناس أشعر بهم ويشعرون بي، أحبهم ويحبوني أحنو عليهم ويحنون عليّ، أشاركهم إسلامي ويشاركونني إسلامهم! والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته! 

عمرو خالد لأسرتي بتاريخ يناير 2005