الأسرة طوق النجاة للأمة

 

أريد أن أتحدث عن مشاكل الأسرة. شجعني على ذلك أن رسالة الدكتوراه التي أُعدُّها تتحدث عن الإصلاح الاجتماعي بين النموذج النبوي والنماذج الغربية. في السنوات الأخيرة زادت نسبة المشاكل الأسرية وارتفعت معدلات الطلاق بصورة غير مسبوقة. كان زمان الطلاق مسألة صعبة جداً، الآن أصبح سهلاً، وأصبح الرجال في مواضع الهزر يقولون لبعضهم: أنا طلقتها وأنا متنرفز. والطلاق لا يقع أثناء الغضب وأصبحت عبارة "عليَّ الطلاق" سهلة تقال على أفواه العامة في كل وقت.



 

وزادت نسبة العنوسة, وسن الزواج يتأخر باطراد بين البنات. وأصبح عادياً أن تتخطى الفتاه سن الثلاثين من دون زواج. وكذلك الشاب يتخطى سن ال35 من دون زواج. الخلافات تزيد والتفاهم يقل. دفء العلاقة يتبدد. وكان الإنسان يريد أن يمسك بالبيوت محذراَ: الحقوا يا جماعة البيوت بتقع. الأخطاء والخلافات تتراكم. كل من الزوجين يتهم الأخر، وينازعه سلطاته. كل يوم هناك خيانات زوجية، وهناك طلاق وعلاقات بين رجال ونساء عن طريق الانترنت وصحوبية تنتشر وتؤثر على علاقات ما بعد الزواج. هذه الأشياء تدعو للخوف. والمؤلم أن العلاقات الأسرية والترابط داخل العائلة كانا الحصن الباقي لهذه الأمة.

ولم يعد هناك طوق نجاة تتشبث به هذه الأمة بعد الأسرة. لو انهارت الأسرة كل شيء ينهار. وعلى الأمة أن تنتظر ثلاثمائة عام أخرى حتى يتاح لها أن تنهض مرة أخرى. الغرب يتفوق علينا علمياَ وثقافياً وأشياء أخرى كثيرة. وكانت الأسرة هي الشيء الوحيد الذي نتفوق فيه على الغرب بميزة الترابط العائلي.

 في مؤتمر الأسرة العالمي، وقف رئيس منظمة الأسرة العربية يقول: "يا غرب نحن أضعف منكم في أشياء كثيرة، لكن لدينا عاملاً لو أَحْسَنَّا استغلاله سنقود الدنيا بعد 50 سنة، وأنتم عندكم العامل نفسه لو أَبْقَيْتُمْ على إِهْمَاَلِه مثلما هو الآن فسوف تسقطون من عين الدنيا. هذا العامل الذي أهملتموه هو الأسرة.
هذا الكلام الذي أقوله الآن أهم من مليون درس في الأخلاق، وأهم من مليون درس في الصلاة والعبادة. أن تظل الأسرة مترابطة لكي يظل المجتمع بخير.

من الممكن أن تتساقط كل خطوط الدفاع عن الأمة خطاً وراء خط، لكن خط الدفاع الأخير– وهو الأسرة – لابد أن يبقى. وإذا سقط هذا الخط الدفاعي الأخير، فسوف تسقط الأمة وينهار المجتمع كُلَّه فليمسك كل مِنَّا بطوق نجاته ويقول: أسرتي.

 

وسائل صياغة العقل البشري أربعة: الإعلام – المدرسة – المسجد – الأسرة.

الإعلام: أكثرهم انتشاراً وأسرعهم تأثيراً، لكنه ليس أعمقهم أَثَرَاً. فلو غَرَسْت في ابنك وبنتك قيمة تربيا عليها منذ الصغر، لا يستطيع أَعْتَى جهاز إعلامي أن يؤثر فيها. هو أسرع انتشاراً وأسرع تأثيراً، ونحن نحس بذلك الآن لأنه وحده في الساحة. لكنَّه مؤثر بلا شك وأحد عناصر صياغة العقل البشري.

المدرسة: تعاني من مشاكل كثيرة، وفي حاجة إلى إصلاح يحتاج لجهد طويل. نظام التعليم والمناهج وأعداد الطلبة التي تتضاعف ونقص المعلمين كل هذا ينتقص حالياً من تأثير دور المدرسة.
المسجد: أنا عشت في المسجد، لو أَتَيْت بشاب ووفرت له في المسجد من يُعَلِّمُونَه ويُرَبُّونَه أحسن تربية دينية وإيمانية بينما هو خارج من بيت سيء، فلا فائدة. نحتاج لجهد ووقت غير عادي لكي ترمم هذه الشخصية وتحاول إصلاحها.

الأسرة: هي أخطر وأعمق وسائل صياغة الشخصية والعقل والأخلاق، وهي الأقوى تأثيراً، وهي محبس الوسائل الثلاث الأخرى. بيدك أن تسمح أو تمنع عن الوسائل الثلاث الأخرى. بيدك أن تسمح أو تمنع عن أبنائك رؤية القناة الفضائية هذه أو تلك. وبيدك إدخال أبنائك هذه المدرسة أو تلك. وبيدك أن تسمح لهم بالذهاب إلى الجامع أو تمنعهم.

إذاً الأسرة هي الأمل الباقي الأعمق تأثيراً. قُمْ بتربية ابنك جيداً. هيئ له المناخ الصحي للحياة. دعه يرى الأب وهو يُطَبْطِب على الأم، ويرى الأم وهي تحترم الأب. ويراهما يصليان معاً. ويرى حرص الأب على أن تكون مصادر رزقه حلالاً. ويرى الجميع في البيت يعلمونه كيف يحسن معاملة الناس في الشارع ويتأدب مع الكبير. هذا الحب الذي يحتضنه داخل البيت سيكون جهاز المناعة لمستقبله ولحياته. فلا تقلق عليه بعد ذلك إذا سافر إلى الخارج وحده ليتعلم. دعه يتعرف على الناس باختلاف مشاربهم وأجناسهم، فأبداً لن يضيع. لو بذرت فيه بذرة الأخلاق الحميدة داخل الأسرة فسوف يَعْبُر فترة المراهقة بسلام، ويعود إليك كما كنت تتمناه. حتى لو أثرت فيه الوسائل الأخرى سلباً, فسوف يعود إلى نشأته الأولى.

أخر خط دفاع عن الأمة هو الأسرة، لذلك أقول للشباب والبنات: أرجوكم أَحْسِنُوا الاختيار عند الزواج. وانظروا كيف أهتم الله تبارك وتعالى بالأسرة وقال عنها ما قال في كتابه الكريم: " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة". أراد الله سبحانه أن يقول لنا عن مركز الكون نواة اسمها "الأسرة".

 

مقال كتبه الأستاذ عمرو خالد لمجلة أسرتي في عدد يونيو 2004