الأستاذ محمد بدرة على إذاعة صوت الخليج 3

 

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبالإخلاص لوجهه تؤتي أكلها وتتنامى خيراتها، والصلاة والسلام الأكملان على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. إخوتي وأخواتي المستمعين ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد ..



 

فهذه هي (الحلقة الثالثة) من برنامجكم [التنمية البشرية بين المادية والروحانية] ..... ذكرنا في الحلقة الماضية أن مشكلة الباحثين الذين بحثوا في منجزات الحضارة العربية الإسلامية لم ينظروا إليها على أنها حالة تنموية كأي حالة تخضع للتنمية البشرية، مع أن الذين قاموا بهذا النتاج والإنجاز الحضاري هم بشر في النهاية ...

 

إذن ينطبق عليهم ما ينطبق على كل إنسان لينتقلَ من حالة إلى أخرى . ولنشرح فكرة الحالة الإنسانية ببساطة أكثر بغية الغوص في هذا المفهوم الحضاري الذي يتوقف على نهضة الأمم.

 

لنفرض أن إنساناً ما خرج من بيته صباحاً تملؤه الحيوية والنشاط، مسرعاً إلى عمله، غيرَ آبهٍ بمصاعب العمل، متفائلاً جدا ... غايةً في السعادة. حالة هذا الإنسان واضحة: تفكير متقائل ... شعور سعادة ورضا ... جدية وإقبال على العمل.

 

الآن ... وبعد مضي ساعةٍ في عمله بالنهار ... أتى صاحب العمل إلى هذا المصنع، إلى هذا المتجر، إلى هذا المكان الذي يعمل فيه هذا العامل النشيط. كان صاحب العمل ... معكرَ المزاج ... منزعجاً ... فبدأ يزعج هذا العامل غيرَ عابئ بإنجازه ... غيرَ مكترثٍ بما حقق له من أرباح ... ظلمه بنظراته بانتقاداته بالاستخفاف به ... ما النتيجة ؟ ... النتيجة أن سلوك صاحب العمل أثر سلباً على شعور هذا العامل النشيط الجديّ. في الأعم الأغلب ـ وبجزء من الثانية ـ يتحول شعورُ هذا العامل إلى إحباط يؤثر على سلوكه فيفترُ تفكيرُه، فيتوقف عن الإبداع والاجتهاد .... أليست هذه حالةً واقعية أيها الإخوة ... إذن لماذا تغيّر شعورُ هذا العامل ؟ بهذا السببِ الخارجي عنه تأثّر سلوكُه وتأثر تفكيرُه؛ فتغيرت حالته.

 

في التنمية البشرية المعاصرة في الغرب وبعضِ المؤسسات عندنا التي بدأت تعتني بهذا النوع من التنمية البشرية يبحثون عن الوسائل التي نستطيع فيها من المحافظة على الحالة الإيجابية المنشودة للموارد البشرية، وبالتالي تكون النتائجُ عاليةً على مستوى الإنتاج في المصنع، والنجاحِ الإداري والاقتصادي والمالي للمنشأة ككل ... ومنذ سبعينياتِ القرن الماضي وحتى اليوم يسعى الغربُ في أمريكا.... في اليابان.... في أوربا.... لزيادة هذه التنميةِ التي لا بدّ أنها ستنعكس على تحقيق الهدف أوِ الأهدافِ المنشودة.

 

فهل من المعقول أنه على مستوى منشأة صغيرة، ومن أجل مدة زمنية تقدّر ببضع سنوات، تحتاج هذه المنشأة إلى دعم تنمويٍّ مستمر ضمن دراساتٍ وتكاليفَ وجهود، بغية رفع الحالةِ للفرد في المؤسسة أوِ الشركةِ أو المصنع أو المتجر، وليس هناك تنميةٌ بشرية يحافَظ عليها على الأقل إن لم نقل إنها تزيد الحالة الإيجابيةَ للقائمين بأعظمِ حضارة عُرفت في التاريخ، من حيث التطورُ كماً وكيفاً وزمناً ... ففي أقلَ مِن رُبع قرن كانت رقعة الدولة الإسلامية أكبرَ من رقعةِ أيِّ دولة ... وهزمت أكبرَ إمبراطوريتين في آنٍ واحد، وتغلبت على مناوئيها. والمعدِّدُ والملاحظ والدارس للتطور الحضاري الصناعي والعلمي والتقاني والاقتصادي في الحضارة الإسلامية لَيَشهدُ العجبَ العجاب، ولولا خشيةُ الإطالةِ لخضنا في التفاصيل.

 

إذن نعود فنقول لا بدَّ من عملية تنمويةٍ بشرية معينة تؤسس لأيِّ شأوٍ حضاري ... هذا يعني أن الحضارة العربية الإسلاميةَ هي نِتاجُ تفاعلِ عناصرِ الحضارة: (الكون والإنسان والحياة) ضمن عملية تنمويةٍ كبيرة، خضع لها العنصرُ الأهم من عناصر الحضارة الذي هو الإنسان؛ لأنه كلما كانت الحالة الإنسانية ـ التي ذكرناها ـ المركبةُ من (التفكير والشعور والسلوك)؛ كانت الحالة الإنسانية المطلوبة والمستهدفة أكبرَ، وكان التغيير أدقَّ وأصعب. فكيف إذا كانت هذه الحالة ضمن مجموعةِ أفراد ؟... وكيف إذا كانت ضمن مجتمع ؟... وكيف إذا كانت حالةً تسري وتتجلى في أمة كاملة ؟...

 

هذا ما سنتابع الحديثَ عنه في القادم من الحلقات، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.