الأستاذ محمد بدرة على إذاعة صوت الخليج 21

 

الحمد لله رب العالمين حمداً طيباً مباركاً فيه ... ملء السموات وملء الأرضين ... والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه. أعزائي المستمعين ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد ...



 

فهذه الحلقة الحادية والعشرون من حلقات برنامجكم: [التنمية البشرية بين المادية والروحانية] ..... وقد ذكرنا في الحلقة الماضية أن تعريف القرآنِ التنموي لحقيقة هذه الحياة ... ولجناحَي هذه الحقيقة ... أن الحياةَ تافهة قصيرة ... وبنفسِ الوقت هي رأسُ ماله الذي يقدِم بها غداً على الله تعالى ... فكان من نتيجةِ هذه الرؤية المتكاملة ... لا المتشاكسةِ كما يظن الناظرُ بشكل سطحي ... كان من نتيجة ذلك أن رسم من تلقَوا هذه التنمية واصطبغوا بها من الرعيل الأول ... رسموا حضارة إنسانية مثلى ... الخنساء شاعرة من شعراءِ العرب منذ الجاهليةِ قبل الإسلام، فراحت تملؤ الدنيا صراخاً وعويلاً ونحيباً لفقدها أخيها ... وراحت تندبُ وتحزن عليه وحدّثت نفسَها بالانتحارِ، وقالت:

ولولا كثرةُ الباكين حولي         على إخوانهم لقتلتُ نفسي

 

فلما شرّفها الله بالإسلام ... وأقبلتْ إلى القرآنِ تُصغي ... وتتعرّف على حقيقةِ الدنيا بشطريها كما قلنا، وأنها معبَرٌ لمستقر ... وكان لها أربعة أبناء ... فلما كانت حربُ القادسية ... دفعتْ بهم جميعاً إلى المعركةِ وقالت لهم توصيهم: ( يا بَنيَّ ! إنكم أسلمتم اللهَ طائعين، وهاجرتم مختارين، واللهِ الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجلٍ واحد وامرأةٍ واحدة، ما خنتُ أباكم ولا فضحت خالكم، وقد تعلمون ما أعدّ الله للمجاهدين، امضوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين ) .... وبعد أنِ انجلت غبارُ المعركة؛ جاءها النبأ بمقتل واستشهادِ أبنائها الأربعة ... فكيف استقبلتِ الخبر ؟!! تلك التي ملأتِ الدنيا عويلاً على مقتلِ أخيها صخر .... لم تزد على قولها: ( الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم جميعاً، وأرجو اللهَ أن يجمعني بهم في مستقر رحمته ) .... وهكذا كان حالُ جميعِ الذين ضحَّوا بحياتهم من أجل المثل القدسية العليا ... وهذا سر اللغز في الفتح واستبسال المسلمين فيها ... فاستبسال المسلمين في القتال من أجل الهدف الأكبر الذي تم اليقين به ... على حين أن مصدر استبسال عدوهم ... لم يكن إلا حرصهم على تلك الحياة وشدة تعلقهم بها .... والخوف على ما استمرؤوه من نعيمها ولذائذها ... وشتان بين من يقاتل مستهينا بالحياة وما فيها ... ومن يقاتل متعلقا بالحياة ومتاعها وهكذا تمت تنمية ذلك الجيل ...

 

بدؤوا بداية فصححوا مفاهيمهم المغلوطة عن معنى الحياة الدنيا ... بعد أن صححوا مفهومهم حول ذواتهم ...وبدؤوا يتعاملون مع هذه المفاهيم على وهم ... كما قال تعالى عن أولئك الذين لم يعوا هذه الحقائق ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا)... صورة مقابلة أخرى في حالة أخرى واحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه عمران بن حصين رضي الله عنه ... أصاب هذا الصحابي مرض ألزمه الفراش اثنين وثلاثين سنة... وأي فراش إنه قد اضطجع لمرض الم به في ظهره على سرير من سعف النخيل ... جريد النخل... ضجعة واحدة اثنين وثلاثين سنة لا يتحرك قبيل وفاته دخل عليه أخوه العلاء ...فبكى العلاء فبكى العلاء عندما رأى أخاه عمران... فقال عمران المريض المصاب للعلاء ما الذي يبكيك يا أخي ... قال هذه الحالة التي أنت عليها منذ أكثر من ثرثين سنة ... وقد أصبح مهزولا ضعيفا مجموعة عظام يغطيها الجلد... فأجابه عمران ... إن أحبه إلى الله أحبه إلي أليس الله هو الذي اختار لي هذه الحالة ... إذن أنا صابر بل أنا شاكر لم يكن ضجرا من هذه الحياة التي يحياها ... لم يكن مكتئبا بل قال (إن أحبه إلى الله أحبه إلي) ... ما الذي يجعل عمران بن حصين يضن بحياته ... يصبر رغم كل الصعوبات ... فهمه لحقيقة الحياة ... الخنساء تضحي بحياة أولادها الأربعة ... وعمران يعانق الحياة كأنه شاب في ريعان شبابه ... هذا ما يورثه فهمهم للحياة الدنيا ... حقا الدنيا مزرعة الآخرة أو كما قال صلى الله عليه وسلم ... وإلى اللقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.