الأبعاد التربوية والنفسية والاجتماعية لثقافة التسامح

 

إن الحديث عن «التسامح» وثقافته، هو حديث ينبع من العقل الفردي وينتهي بالعقل الجمعي، أي بمعنى آخر، يبدأ بالإنسان الفرد وينتهي بالمجتمع الكبير. وجوهر هذا النمط من الحديث، هو النضج الانفعالي والتوازن الفكري، والإيمان الذي يستمد قوته من التقوى والعمل الصالح للفرد داخل الأسرة والمجتمع. يقول الشيخ محمد عبده «إن الشيء الذي تميز به الإسلام عن غيره احترامه للعقل ودعوته للنظر والتفكير، وحثه على العلم والتعلم وإشادته بالعلماء وأصحاب العقول وحملته على الجمود والجهل، وتمجيده للقراءة والكتابة والقلم، منذ أول آيات أنزلت من القرآن».


 

لذلك.. وقبل أن نبدأ بالحديث عن الأبعاد النفسية والتربوية والاجتماعية لثقافة التسامح، لا بد لنا أن نوظف عقولنا وأفكارنا وعلومنا بقلوب صافية ونقية، لفهم المعاني الحقيقية لهذه الثقافة وما يمكن أن تحققه في مجتمعاتنا العربية من خير وحب وسلام ورفاهية وتقدم. ويتساءل الفيلسوف الفرنسي فولتير قائلًا: «ما هو التسامح؟ إنه نتيجة ملازمة لكينونتنا البشرية، إننا جميعًا من نتاج الضعف، كلنا هشون وميالون للخطأ، ولذا دعونا نسامح بعضنا البعض ونتسامح مع جنون بعضنا البعض بشكل متبادل».
وهذا شاهد آخر يدعونا إلى إعمال الفكر والعقل والعاطفة عل حد سواء للتعامل مع الحياة. فمن منا لا يخطأ، ومن منا لا يضعف أمام هزات الحياة ومشكلاتها. ولكن كيف نتعامل مع أخطائنا؟ وكيف نتعامل مع الآخر الذي تسببنا في إيذائه نتيجة أخطائنا؟ كلنا يتذكر قول الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون». وما التوبة؟ أليست هي دعوة إلى الباري تبارك وتعالى بقبول التوبة من جرم أو إيذاء أو خطيئة؟ ولكن كيف يقبل الله تبارك وتعالى التوبة، دون طلب الاعتذار من الشخص الذي تعرض للإيذاء أو الألم. إن جوهر الأديان السماوية، وفي مقدمتها الإسلام، يدلنا في هذا المضمار، على آلية عقلية وسلوكية في آن، تقول إن النفس إذا ما ارتكبت خطيئةً، تخاصم ذاتها، لذا فإن أول سلوك نلجأ إليه هو التصالح مع النفس قبل أن نتصالح مع الآخر، وإذا ما تم التصالح مع النفس ومع الآخر، فإن الدعوة للتوبة إلى الله تصبح حقيقة لا مرد لها، لأن الغاية الإلهية القصوى لخليفة الله في الأرض، الإنسان، هي أن يحيا حياة كريمة وسعيدة وهانئة، ولا سعادة طبعًا لفرد أو جماعة مع وجود العنف والعدوان والتطرف، لأن الميل إلى العنف هو المنبع الأساس للخطأ والإيذاء، ولا يمكن للتوبة أن تتحقق إلا بالاعتذار والتسامح حيث تتحول الرذيلة إلى فضيلة، وهذا ما يتطابق مع المقولة المشهورة «الاعتراف بالخطأ فضيلة». وما يؤكد أن الخطأ فينا جميعًا، قول عيسى، عليه السلام: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر».
لذلك، وقبل كل شيء، علينا أن نتعلم كيف نعترف بأخطائنا، وكيف نصارح ذواتنا، لا أن تأخذنا العزة بالإثم، ونعاند بضراوة وقوة غير مكترثين بأخطائنا، تاركين عقولنا تعاني موروثات سرعان ما تتراكم لتخلق لنا التوتر والقلق والسوداوية في المزاج التي تنعكس خارج نفوسنا على شكل آليات دفاعية نفسية لاشعورية في مقدمتها التبرير والإسقاط. وهنا تتعقد الأمور ويبدأ التسويف على حساب النفس والعقل، إذ نبدأ بصب جام غضبنا الذي هو حصيلة صراعاتنا وأزماتنا غير المحلولة، على غيرنا، على الآخر، أيًا كان هذا الآخر، شخصية فردية أم معنوية، فنكيل التهم ونمعن بالإيذاء ونلجأ إلى التعميم، فتخجل منا نفوسنا، وتتحول حياتنا إلى دائرة من الخصام مع النفس ومع الآخر، دائرة تبقى تدور وتدور ولا يمكن إيقافها إلا بكسرها في أحد أطرافها، وهذا يعني التنفيس والمصارحة ونقد الذات حيث الاعتذار وطلب العفو والمسامحة. وهنا، وهنا فقط، نصل إلى الدرجة التي يمكن أن يرضى عنا الله تبارك وتعالى، ونعيش بهدوء وسلام ومحبة.
والسؤال الذي يؤرقني دائمًا، ونحن نعيش في عالم اليوم الذي يشهد أبشع أنواع الظلم والإيذاء والعنف والعدوان، حيث تناقصت قيمة الإنسان الذي جعله الله في أحسن تقويم، إلى أدنى الدرجات في تاريخ الإنسانية - السؤال هو: أين نحن من قيم السماء في العدالة والتسامح والصفح التي ظل الخالق يأمرنا بها على مدى أكثر من عشرين قرنًا من الزمان؟ لماذا لم نستطع أن نحول قيم الفضيلة والمحبة والتسامح إلى آليات عملية سهلة التطبيق في مجتمعاتنا العربية الإسلامية؟ صحيح أن الكتب والصحف والرسائل التي نتداولها منذ قرون وبكل لغات العالم، تزخر بالحديث عن هذه القيم، ونحن نتداولها ببغاويًا وننظر فيها بأحلى الكلمات وأجملها لكنها مع الأسف، ظلت حبيسة هذه الأوراق، دون أن تتحول إلى برامج تدريبية ومناهج للعمل الدؤوب على تطبيقها عمليًا على مستوى السلوك والتصرف.
وقد تنبهت منظمة اليونسكو للتربية والثقافة والعلوم التابعة للأمم المتحدة، إلى موضوع ثقافة التسامح فأصدرت في 16 تشرين الثاني من عام 1995م، إعلانًا يتضمن المبادئ الأساسية للتسامح كثقافة تربوية ونفسية واجتماعية. وقد أصبح هذا اليوم ومنذ المؤتمر العام لليونسكو في دورته الثامنة والعشرين، يومًا عالميًا للتسامح. ولكن، كم منا يتذكر الاحتفال بهذا اليوم؟ القليل القليل يستثمر هذا اليوم ليعلن بكل صدق ومحبة وإيمان أهمية التسامح في حياة الأفراد والشعوب.
إن الحديث عن التسامح، هو حديث عن القوة والإيمان والعزيمة والتقوى، وهو ليس حديثًا عن التنازل أو الضعف أو التهاون، كما يحلو للبعض أن يفسره! إنه يعني الإقرار بحقوق البشر جميعًا فوق سطح الكوكب، وكذلك الإقرار بالاختلاف وبالإرادة وحرية الاختيار. والتسامح هو نقيض التحيز والتطرف والتعصب والاستبداد، وهو في الوقت نفسه صنوان التعددية والديمقراطية والحرية، وهو القيمة الأساسية التي تنبثق عنها حقوق الإنسان في كل زمان ومكان. والتسامح بعيد كل البعد عن الظلم الاجتماعي، وهو عكس الخنوع والاستكانة، لأنه يمثل بحق، حق الإنسان في التمسك بعقيدته بشكل عادل ومتساو ودون تمييز، وهو في جوهره، الأساس العقلاني الممكن لتحقيق العدالة الاجتماعية والسلام في المجتمعات الحديثة.
لقد خلقنا الله جل وعلا، شعوبًا وقبائل ليتعارف بعضنا على بعض، لا فرق بيننا كبشر أسوياء على أساس العرق أو الدين أو اللغة أو الجنس أو المعتقد السياسي، أو الطبقة الاجتماعية. والاختلاف بين البشر على أساس هذه المتغيرات لا يمنعنا أبدًا من أن نعيش معًا، متحابين متوافقين، نسعى جميعًا لتحقيق السعادة والرفاهية والازدهار. ولا نستطيع أن نحقق هذه الأهداف إلا بتوافر القدر الكافي من التسامح بين البشر وإن اختلفوا بطبيعتهم البشرية التي خلقهم الله بها.
ومن المؤسف حقًا، وعلى الرغم من قوانين السماء ومواثيق الأرض، فإن ثقافة اللاتسامح، هي الثقافة السائدة بين بني البشر. ومن ينظر اليوم إلى العالم وهو قرية صغيرة ويتصفح المواقع المختلفة على شبكة الإنترنت، يجد العجب العجاب من أشكال العنف والتطرف والتحيز والغلو، قتل، دمار، انتهاك، سلب، خطف، نفاق، كذب وغير هذا الكثير. ومن يراقب بمنظار صغير، عالمنا العربي من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، وبعقل متفتح وروح أمينة صادقة، يجد أن مظاهر التعصب موجودة في مجتمعاتنا ولا يمكن إنكارها، مع ضعف واضح في ثقافة وتقاليد الحوار الديمقراطي الهادف، وانتشار للأفكار الأحادية غير المتسامحة التي يدعي أصحابها، أنهم هم وحدهم الذين يمتلكون مفتاح الحقيقة وليس سواهم، وتلك كارثتنا الكبرى التي تقف حجر عثرة أمام التغيير أو حتى الإصلاح.
ويرتبط «التسامح» بالإسلام ارتباطًا وثيقًا، فالأول وممارسته فعليًا على مستوى الأفراد والجماعات ومن ثم المجتمعات والدول، يؤدي إلى الثاني، ويهيئ إلى جميع أنواع التقدم الاقتصادي والاجتماعي للشعوب. وتشير المادة الأولى من إعلان المبادئ بشأن التسامح الذي أعلنته اليونسكو، إلى أن التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا. ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد. وأنه الوئام في سياق الاختلاف، وهو ليس واجبًا أخلاقيًا فحسب، وإنما هو واجب سياسي وقانوني أيضًا. والتسامح هو الفضيلة التي تيسر قيام السلام، وهو الذي يسهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب.
إن القارئ لهذه المادة وغيرها من مواد المبادئ، يجد أننا أمام مهمة كبيرة، ألا وهي مستوى النظرة إلى التسامح كمصطلح، فهو ليس كلمة أو مفهومًا فقط له دلالاته ومعانيه على مستوى اللفظ أو في سياق الحديث، بل هو ثقافة متكاملة تتجاوز المعنى النصي للمفهوم إلى معنى المعنى كما يطلق عليه في دراسات التحليل النفسي وعلم نفس اللغة.
إذًا نحن أمام ثقافة تحتاج إلى توعية وتثقيف على مستوى الأفراد والمجتمع، فضلًا عن أنها ثقافة تحتاج إلى تبنيها، الدول والحكومات والأحزاب التي تستلم السلطة في هذا البلد أو ذاك، وتحتاج هذه الثقافة إلى منهج عملي وفكري متكامل يتم تطبيقه بشكل يتناسب مع ظروف المجتمع وتطلعاته من جهة وطبيعة قطاعاته وشرائحه وطبقاته من ناحية أخرى. ولا يمكن أن يتم هذا إلا من خلال هيئة نزيهة، محايدة ومستقلة تتبنى التأسيس والتطبيق لثقافة التسامح، تكون مؤمنة بشكل كامل بهذه الثقافة وعلى درجة عالية من المرونة والانفتاح لتستطيع تنفيذ برامجها التوعوية والتثقيفية في داخل المجتمع بشكل سلس وإيجابي، مع الأخذ بنظر الاعتبار القدرة على مواجهة العقبات والصعوبات في أثناء التطبيق وكيفية معالجتها والتعامل معها.
 
إن الخطوط العريضة لوضع المنهج المتكامل لهذه الثقافة، لا بد أن تتضمن برامج متعددة يتم تطبيقها على قطاعات مختلفة داخل المجتمع وضمن سقوف زمنية محددة ومن خلال فرق عمل تطوعية تؤمن بهذا المنهج وتسعى لتطبيقه بروح مخلصة وأمينة بعيدًا عن البغضاء والكراهية، وذلك من خلال المؤتمرات والندوات والحلقات النقاشية والمحاضرات والبرامج التلفازية والملصقات والبوسترات، والأهم من ذلك كله، ورش العمل التدريبية التي تتوزع بملاكاتها على مساحة الرقعة الجغرافية لهذا البلد أو ذاك وبالتعاون مع المهتمين والمتخصصين في نفس الموقع الجغرافي لتأمين القناعة والإرادة الفاعلة في الطروحات والبرامج التدريبية التي يقوم بها المدربون.
وانطلاقًا مما تقدم يتضح لنا أن ثقافة التسامح تنطوي على العديد من الأبعاد التي تستهدف التغيير في القناعات وإزالة بعض الأفكار المستمدة من موروثات معرفية قديمة وإحلال الجديد مكانها والمبنية على أساس التسامح والعفو والتصالح من أجل السلام. والأبعاد التي تتضمنها ثقافة التسامح كثيرة منها: اجتماعية، نفسية، تربوية، سياسية، دينية، اقتصادية وغيرها. وسنحاول أن نركز في هذه المقالة على أن نتناول ثلاثة أبعاد رئيسة فقط هي التربوية والنفسية والاجتماعية، تاركين المجال للآخرين من الكتاب لتناول الأبعاد الأخرى. وسنعتمد بشكل أساس في تناولنا لهذه الأبعاد على مبادئ إعلان اليونسكو:
الأبعاد التربوية:
يعد التعليم المجال الرحب والواسع والأساس للانطلاق نحو تعزيز ثقافة التسامح، خصوصًا في مجتمعاتنا العربية الإسلامية لاختلاف المرجعيات في وضع مناهج التعليم وتأثرها بشكل مباشر بالضغوط والبرامج السياسية السائدة. لذا فإن مسألة اعتماد أساليب منهجية وعقلانية لتعليم التسامح، يعد مطلبًا ضروريًا يتضمن في البدء أسباب اللاتسامح كثقافة سائدة تتناقض مع جوهر الديانات السماوية، ومن ثم البحث في جذور ثقافة العنف والتطرف وهي الثقافة الأشد عداء لثقافة التسامح. إن السياسات والبرامج التعليمية وعلى مختلف مراحل التعليم، بدءًا من رياض الأطفال حتى الجامعة، بحاجة ماسة إلى تضمينها برامج تعزز من التضامن والتفاهم والتسامح بين الأفراد، وكذلك بين المجموعات الإثنية والاجتماعية والثقافية والدينية واللغوية وفيما بين الأمم.
إن التعليم هو مصدر الثقافة ومنبعها وهو الذي يبني الفرد تربويًا وعلميًا ومعرفيًا إضافة إلى المصادر الأخرى التي تتلخص بخبرات الحياة وتجاربها والإعلام والتثقيف الذاتي. ولا تتحدد المعرفة التي نحصل عليها من خلال التعليم بالمنطقة أو الحدود الجغرافية التي يعيش فيها المتعلم، بل تتعدى هذا إلى مساحات أوسع وأكبر لتشمل الكون والعالم والإنسان في كل مكان. لذلك يجب القول بأهمية أن تكون برامجنا التعليمية شاملة وعالمية ولا تتحدد بالموقع الجغرافي لهذا البلد أو ذاك حصرًا. فقد لا يعاني مجتمع ما وجود أعراق وإثنيات وأديان وأجناس متعددة، كما يعاني مجتمع آخر هذه التعددية. ولكن لا يعني هذا أن نجعل من البرامج التعليمية للبلد الذي لا توجد فيه تعدديات عرقية، متحددة ومقتصرة على توجهات أحادية، لأن الفرد هو ابن العالم وليس فقط ابن المجتمع الذي يعيش فيه، ولا بد من توسيع مداركه ورؤيته إلى أكبر وأوسع من منطقته وحدوده الجغرافية.
تقول إحدى فقرات إعلان المبادئ بشأن التسامح بخصوص فقرة التعليم والتربية: «إن التعليم في مجال التسامح يجب أن يستهدف مقاومة تأثير العوامل المؤدية إلى الخوف من الآخرين واستبعادهم، ومساعدة النشء على تنمية قدراتهم على استقلال الرأي والتفكير النقدي والتفكير الأخلاقي».
وتتعهد الأمم المتحدة في المجال التربوي بمساندة ودعم تنفيذ البرامج التعليمية في حقول التسامح، وحقوق الإنسان واللاعنف. وهذا يعني بطبيعة الحال الاهتمام بموضوع إعداد المعلمين والمدرسين الجامعيين وتحسين أدائهم في هذا المجال، فضلًا عن العمل على تضمين المناهج الدراسية والكتب المدرسية وغيرها من المواد التعليمية، المبادئ الأساسية لثقافة التسامح والسلام ونبذ العنف والتطرف، بهدف تنشئة أفراد منفتحين على ثقافات الآخرين، ويقدرون الحرية حق قدرها، ويحترمون كرامة الإنسان والفروق بين البشر، وقادرين على درء الصراعات والنزاعات أو حلها بوسائل غير عنفية.
الأبعاد النفسية:
إذا كانت الأبعاد التربوية كما أسلفنا، والأبعاد الاجتماعية، كما سنأتي على ذكرها لاحقًا، تتضمن برامج تثقيفية وتعليمية وتربوية، فإن الأبعاد النفسية لثقافة التسامح تمثل الحضن والملاذ الذي تنطلق منه التطبيقات التربوية والاجتماعية كونها تمثل الاستعداد النفسي للفرد في تقبل هذه الثقافة وبالتالي الإيمان الكامل بها وتسخير كل الطاقات والقابليات والإبداعات الذاتية في سبيل تحقيقها. إن البناء النفسي للإنسان يبدأ من السنين الأولى للحياة. وتعد مرحلة الطفولة المبكرة، المحطة الأولى لبناء الضمير الإنساني ومنظومة القيم الفاضلة، وكل ما يأتي بعدها من مراحل هو تعزيز وتكثيف للمحطة الأولى.
وتبنى الأنا الأعلى في شخصية الإنسان، أي الضمير، من الأم بدءًا ثم الأب ، ثم الأقربون. وهؤلاء، هم الذين يزرعون البذرة الأولى لقيم الفضيلة والأخلاق الطيبة، فيتعلم الطفل الصدق والشجاعة، والشكر والمحبة والتعاون وحب الناس وغيرها. وتتحول هذه القيم عبر مراحل النمو إلى منظومات عقلية راسخة يصعب زعزعتها في المستقبل، لذلك فإن البناء النفسي السليم في هذه المرحلة من مراحل النمو، يعول عليه كثيرًا في بناء ركائز الشخصية ومكوناتها. فإذا تعلم الطفل منذ الصغر، الثقافة الأحادية في الفكر، والخوف والتحيز والتطرف إلى فكرة دون أخرى، فضلًا عن الاتكالية في أخذ المعلومة واعتناقها على أنها الوحيدة دون ترويض فكره أو عقله على أن هناك غيرها من المعلومات التي قد تتناقض معها، ينشأ الطفل ويكبر أسيرًا لمجموعة من هذه المنظومات الفكرية الراسخة، متبنيًا إياها دون نقد أو تمحيص أو تفكير أكثر في مصادرها ومنابعها. ومن هنا يبدأ التطرف الذي يمهد إلى ثقافة العنف واللاتسامح. وينعكس هذا بطبيعة الحال على الجماعات ومن ثم المجتمع، فتنشأ ثقافة الحرب والتعدي والإيذاء للآخر دون شعور بندم أو وخزة ضمير.
إن تهذيب النفس الإنسانية وتنقيتها من براثن الفجور والرذيلة، يدفع الإنسان إلى السلوك الذي يعتمد التقوى. وأكثر ما يرتبط بالتقوى، التي هي إحدى ركائز الإيمان، هو العمل الصالح، ولا يمكن للعمل، الذي ارتقى بمعناه الباري تبارك وتعالى ورسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم إلى مستوى العبادة، أن يكون صالحًا وكريمًا إلا من خلال النظرة الشاملة للوجود والكون والعالم والإنسان، على أنه كله من خلق الله. إذًا يتوجب علينا أن نحترم بعضنا بعضًا ونتعاون من أجل الخير والفضيلة. وتلك هي ثقافة التسامح التي تؤدي دون شك إلى ثقافة السلام في مواجهة ثقافة العنف والعدوان.
الأبعاد الاجتماعية:
إذا كان التعليم هو أنجع الوسائل لمنع اللاتسامح، كما تقول مبادئ إعلان التسامح الصادر عن اليونسكو، لأنه الخطوة الأولى في مجال التسامح من حيث تعليم الناس حقوقهم وحرياتهم التي يتشاركون فيها مع بني البشر أجمعين كما خلقهم الله، فإن التسامح ضروري بين الأفراد وعلى صعيد الأسرة والمجتمع المحلي. وأن جهود تعزيز التسامح والانفتاح والتضامن والتعاون، ينبغي أن تبذل في المنزل ومواقع العمل وفي كل مكان إضافة إلى المدارس والجامعات. ويمكن لوسائل الإعلام بكل أشكالها، ووسائل الاتصال بكل إمكاناتها المفتوحة أن تضطلع بدور هام وبناء في تسهيل ونشر ثقافة الحوار والنقاش بهدف نشر قيم التسامح وإبراز مخاطر اللامبالاة تجاه ظهور الجماعات والمنظمات والتكوينات والإيديولوجيات غير المتسامحة.
إن التسامح أمر جوهري في العالم الحديث، وهو أمر جوهري وضروري لنا في عالمنا العربي الإسلامي، لأننا أبناء دين التسامح والمحبة والسلام، لكننا اليوم وكما هو حال غيرنا من أبناء شعوب الأرض، أصبحنا بعيدين عن هذه القيمة الإنسانية العظيمة. إن العالم بأسره اليوم يعاني تصاعد حدة عدم التسامح والصراعات والنزاعات، وربما كان من أسباب ذلك المبالغة في النظرة المادية للعالم والوجود، حيث الاقتصاد المبني على أسس التنافس والفردية وتحقيق الأرباح على حساب الجوانب الروحية والمعنوية في احترام خصوصيات الفرد والجماعة. كذلك فإن السرعة المتزايدة في الحركة والتنقل وآثار العولمة بكل أشكالها وحركات الهجرة وانتقال السكان والتوسع الحضري وتغيير الأنماط الاجتماعية، كل هذا يساهم بشكل أو بآخر في تعظيم مبادئ اللاتسامح ويفضي إلى التنافس غير المشروع بين الدول ليهيئ للحروب والاقتتال.
 لذلك فنحن جميعًا، اليوم وأكثر من أي وقت مضى، بحاجة ماسة إلى ثقافة التسامح، لأنها الحل الوحيد الذي يمكن أن يفضي إلى السلام، ويدحض أكاذيب المتطرفين. إن هذه الثقافة اليوم، هي الأمل الذي يرنو إليه الخيرون والطيبون من أبناء شعوب العالم، ليحيوا حياة حرة كريمة ومتفائلة بعيدة عن الخصام والاقتتال والحرب. إن روح التسامح تعتمد في الأساس على المحبة، والمحبة نسغ ينبع من روح الفرد، والخالق الباري في جبروته وجلاله، محبة. إذًا دعونا نزرع بذرة المحبة بيننا أفرادًا وشعوبًا وأممًا، لنحصد ثمرة التسامح في شجرة السلام.

المصدر: بوابة المرأة