استراتيجية البحث عن مخرج

أحيانا كثيرة ينتاب شعور باليأس الذين نذروا أنفسهم للمشاركة في التغيير الأفضل للأمة ،لأنهم لا يروا نتيجة جهودهم بعد ، فمنهم من يتوقف عن المشاركة ومنهم من له رِؤية أننا في مرحلة زعزعة النفوس وتحرير الطاقات وبديهي أن نمر بأخطاء أو عثرات  ، بديهي أن نتصرف في أغلب الأحيان بشكل عفوي ونغفل بالتالي رؤية الهدف..أو بعبارات كاتب  هذا المقال نحن في مرحلة " التبعثر " لنمر إلى مرحلة " التجمع " وحتما " الحل قابع في ذات الواقع الذي نريد تغييره".

لا مجال إذن لليأس ولنكمل طريق التغيير للأفضل.



انتشلت بسرعة منديلاً ورقياً أجفف به سطح مكتبه بعد أن أطاحت يدي بكوب الشاي، وبينما أنا أعتدل إذا بي أطيح بالكوب الثاني ليسقط أرضاً ويتفجر فيضان الشاي.. رآني مذهولاً فأخذ يهديء من روعي مخبراً إياي أن الخادم سيتولى الأمر، لم أكن مذهولاً لانكسار الكوب وتدفق الشاي، لم تدهشني سوى حركة الشاي على الأرض، كان الشاي يتشعب في مسارات لم أرها قط.. فقد ظننت الأرض مستوية، لا أدري أيهما أصح؟؟ هل شق الشاي الأرض أم أنه مجرد كاشف لطبيعتها؟؟!! وهل مالت له الأرض خصيصاً أم أنها بطبيعتها مائلة؟؟!!

إن بقعة الشاي لا تسير عبثاً كما يبدو للوهلة الأولى، إنها تبحث عن أي طريق ممهد – صغر أو كبر- لتسلكه، ومن مزاياها أنها لا تستهين بأي شَق يمكن أن تنفذ منه، بل إن سرعة السائل تزداد كلما ضاق المجرى الذي يتحرك فيه.

أعجبتني سرعة الشاي وبدأت أشجعه، وازددت إعجاباً به وهو يصِف الأرض، فالأرض حقاً مائلة، وبها بعض الشقوق، يبدو أن أشياء كثيرة نشهد عليها زوراً بأنها مصمتة لايمكن اختراقها. وامتد خيط الشاي حتى وصل إلى الباب، كأنه يقول لي “من هنا”.

سمعت صرخة سيدة فتركت الشاي المسكوب لأفتح الباب الذي أشار إليه خط الشاي الحر من دقائق، إنها أم مكلومة تبحث عن طفلها، التف الناس حولها لا يدرون من أين يبدأون البحث، وإلى أين يتجهون، تحركوا بشكل عفوي، كل في اتجاه قد اختاره، إنهم متحدون على الهدف، لكنهم موزعون يبحثون عن مسار صحيح.

أدركت أنه حين يغيب تصور الحل فإن إطلاق الطاقات لن يعني بالتأكيد توجيهها نحو سبيل يقيني معروف سلفاً، كل ما يمكن فعله هو التبشير بأن الحل قابع في ذاتالواقع المراد تغييره، والمطلوب هو اكتشاف الممكن، وفهم طبيعة الأرض، فروح المرحلة هو “البحث عن مخرج” لا “تحقيق المخرج“، عبر كسر الأواني التي تُحَجِّم السوائل عن الانطلاق لتقوم بدورها في كشف طبيعة الأرض، وإطلاق الطاقات لتكتشف السبل، وتسبر أغوارها، وتشير إلى فرص كامنة في أماكن قد يعجز العقل عن التنبؤ بها. فها هي المياه الحرة تنساب لاهثة وراء مخرج ولو كان في شق صغير لا يُأبه له.

بدا لي أن مرحلة “البحث عن مخرج” لا تعتمد على البدء بتجمع مائي كبير سيبدأ من نقطة واحدة يقينية، لأنه بذلك سيقيد طاقات أخرى مجبراً إياها على السير معه في طريق متوهَّم، لكنها تبدأ من نقاط محتملة، لتنتهي في نقطة أكيدة، أي أنها تبدأ من كل نقطة ممكنة، لكنها في النهاية تجتمع حيث تم العثور على مخرج. إنها حركة الملهوفين الباحثين عن فؤاد الأم الشارد، بل حركة الطبيعة حين تعمل من تلقاء نفسها. ألست ترى بقعة الماء تتسع، تجاورها بقعة أخرى، ليلتحما في النهاية في بقعة واحدة كبيرة دون سابق اتفاق؟؟!!

ويوم أن تتحطم الأواني المعطلة للطاقات، وتُكسر أغلال العقل لتنطلق المبادرات في شتى الاتجاهات، ستتضح خارطة الفعل، تلك الخارطة التي سيكتشفها المجتمع ذاته في وقت قياسي، بحسب تشكل حركة السوائل فيه. وبحسب شكل النقوش التي ستبوح بها الأرض. وبحسب المنافذ التي ستتمكن من عبورها، إن التبعثر استراتيجية فعالة لاكتشاف الممكن، والتجمع هو الخطوة اللاحقة التلقائية لتحقيقه. فقرار سكب الماء في كل مكان نفعله بمحض إرادتنا، أما اتحاد البقع فيتم تلقائياً إن توفرت شروطه الموضوعية.

كذلك ستتضح بتحرير الطاقات حقائق الأشياء، فها هي آنية ممتلئة بالعسل، ظاهرها حلو وشفاء، لكنها فور أن تنسكب أرضاً إذا بها بطيئة جداً إذا ما قورنت بالماء، قد يكون السبب في بطئها كثافة الأيديولوجيا، أو لزوجة القيادة. لست أدري!!

كل الذي أدريه أن مرحلة تحرير الطاقات جوهرها كشف الفرص وإمكانيات الذات، من خلال اختبار إمكانية وسرعة النفاد من المسام. وهذا الاختبار يتطلب مرونة ومغامرة، لذلك تقوم به بقع كثيرة العدد صغيرة الحجم، مجهولة المصدر معلومة الهدف، كل بقعة مسئولة عن حماية ذاتها، وقد تندمج مع بقع أخرى مجاورة  إن لزم الأمر، فإن كان من الممكن لكوب ماء أن يقوم بالمهمة، فلا داعي لسكب برميل كامل على الأرض في نفس المكان. خاصة أن الإخفاق محتمل في بعض الأحيان.

لكن الإخفاق يمارس دوراً إيجابياً، فالمحاولات الفاشلة تهتف في بقية البقع.. “هنا طريق مسدود“، إنها تلك البقع التي لا يزول لونها، ولا تختفي لزوجتها من الأرض، لتصيح بصمتها “انتبهوا فقد مررنا من هنا“، وعلى مواقع مرور تلك البقع الجسورة يجب أن تشيد النُصب التذكارية، إذ أنها تقي تيار السوائل الدخول في المسارات الخطأ. كذلك تنبئنا حركة الطبيعة أن بعض القطرات ستمتصها الأرض، كلها ظواهر يجب ألا تسبب صدمة للناظر، أو تصيبه بهاجس التحكم والسيطرة.

فمرحلة “تحرير الطاقات” التي تهدف إلى “البحث عن مخرج” لا تعرف التحكم والسيطرة بحجة منع ارتكاب السوائل لحماقات، فحركة الطبيعة لن ترحم عابثاً مثلما ستكافيء النبهاء، فهناك بقع من الماء سينتهي مصيرها في بالوعة الصرف الصحي، وأخرى ذكية ستتمكن من الوصول إلى صنبوره في عقر داره… نعم.. ستنطلق من الصنبور لتؤلم عين خصم يغسل وجهه صباحاً، وهناك قطرات أخرى لن تُنسى.. يوم تحريرها هو اليوم الذي تخرج من عينه.. يوم يذرف الدموع!!

كتَاب النهضة: م.وائل عادل