إن من الشعر لحكمة

 

وطاولت الأرض السماء سفاهة                        وعيرت الشهب الحصا والجنادل!

وقال السما للشمس أنت ضئيلة                         وقال الدجى للصبح لونك حائل!

فيا موت زر إن الحياة ذميمة                           ويا نفس جدي إن دهرك هازل!



 

إنها أبيات يعبّر بها قائلها عن انقلاب الأوضاع  وتطاول السفهاء على الشرفاء والافتراء عليهم بما ليس فيهم! وهي أبيات صادقة أتذكرها كلما سمعت أو قرأت فرية يُفتري بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم! هناك البعض ممن أعماهم التعصب يفترون على رسول الله صلى الله عليه وسلم افتراءات لا تقوم على أدلة لا نقلية ولا عقلية ليس ذلك وفقط بل إنهم يسقطون كل الأدلة النقلية والعقلية التي تنزهه ابتداء من هذه الافتراءات التي اختلقوها عليه، ولا يلقون لها بالا ولو حتى بالذكر ناهيكم عن التمحيص والإنصاف!

 

واحدة من هذه الافتراءات هو الولع الجنسي الذي دفعه لأن يتزوج بتسع نساء يتقلب بينهن ليشبع شبابه المنهوم! ولقد وضحت في مقال سابق بشيء من التفصيل كيف، ولِمَ، ومتى جمع رسول الله صلي الله عليه وسلم هذا العدد من النساء في بيت النبوة، ووضحت أن دوافع الشهوة كانت ميتة وراء هذا التعدد الذي فرضته أزمات أحاطت ببعض المؤمنات العريقات، ولمن شاء التذكرة فعليه بالرجوع مشكورا إلى المقال السابق، أو بالطبع إلى الكتب التي تناولت الموضوع ووضحت الأمر وردت هذه الفرية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

واسمحوا لي في هذا المقال أن نسترسل في الموضوع ذاته، ولكن بتناوله من زوايا مختلفة! أول هذه الزوايا  فلنفترض جدلاً _وهو فرض وهمي _ أن الإعجاب بالجمال هو الذي أوحى بتزوج بعضهن مع عدم نسيان أن هذا الجمع بهذا العدد تم خلال العشر سنوات الأخيرة من عمره صلى الله عليه وسلم، يعني في خلال الفترة المدنية، فهل كانت تلك الأيام، أيام الرغد والعيشة الهنية الآمنة التي تتيح لأي مسلم – بمن فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم – أن يتنعم فيها ويستجم؟ إذا كان الأمر كذلك فمتى وقعت بدر، وأحد، والخندق، وتبوك، وغيرها من المعارك، إن المتأمل للفترة المدنية لن يجدها فترة أهنأ حالاً من الفترة المكية غاية الموضوع أن العدو الصريح صاحب العداوة المباشرة صار مكشوفا عن بعد وحلت محل مشاكله، دسائس لا أول لها ولا آخر من يهود المدينة، والمنافقين والمأجورين، وفيما بعد مرتزقة كسرى وقيصر! أفكانت هذه الأيام المضروب فيها الحصار على الدعوة، والمحيطة أزماتها الخانقة بالمسلمين عامة، وأهل البيت النبوي خاصة تيسر للمؤمنين ونبيهم طعم الراحة؟

 

إن الذي يقول بهذا الأمر شخص غير منصف، يعيش في أوهام لا علاقة لها بالواقع، فما أشقى ربة المنزل عندما يكون رب البيت أباً لأمة وملاذاً للمستضعفين واللاجئين وناشدي العون في الصباح والمساء، إنه يؤثر غيره بما لديه ويبيت هو واللاتي معه على الطوى وهذه هي الزاوية الثانية التي أريد أن أتناول الموضوع من خلالها، وهي عيشة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زوجاته، حيث يفتري البعض أنه جمعهن تلذذاً وتنعماً. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم – وعند مسلم قالت عائشة : لقد مات رسول الله وما أشبع فأشاء أن أبكي إلا بكيت! قلت: لِمَ؟ قالت: أذكر الحال التي فارق عليها رسول الله الدنيا! والله ما شبع من خبز ولحم مرتين في يوم! وعند البعض قالت: ما شبع رسول الله ثلاثة أيام متوالية، ولو شئنا لشبعنا ولكنه كان يؤثر على نفسه! وعند الطبراني ما كان يبقى على مائدة  رسول الله شيء من خبز الشعير قليل ولا كثير! قال الحسن: كان رسول الله – صلي الله عليه وسلم -  يواسي الناس بنفسه، حتى جعل يرقع إزاره بالأدم"! وهذا جزء من كل!

 

إن زوجات النبي – صلي الله عليه وسلم – تعبن معه طويلاً في خدمة المجتمع وتعليم الناس ومعاونة الضعفاء واستقبال الوفود. وكان مألوفا أن يصحو النبي للصلاة، ويصلي بالناس في المسجد ثم يعود إلي بيته ليسأل عن شيء يفطر به فلا يجده فينوي الصيام... وربما وجد بعض الخل فلا يضجر ولا يشقى بل يقبل عليه راضياً قائلاً: نعم الأدم الخلّ... هذا هو نهج الحياة – التي يزعم البعض – ممن يدعي الإنصاف والعلمية في التحليل – أنها كانت تلذذاً بالنساء واستمتاعاً بالدنيا بين أحضانهن!! وقد ذكر كتاب السيرة جميعاً كيف ضاقت الزوجات بهذا، وكيف اجتمعن على المطالبة بتغييره، وكيف تطلعن إلى حياة أهدأ وأهنأ.... فبوغتن برد صارم مفاده تخييرهن بين هذا الوضع في الدنيا أو الفراق.

 

وهذا الرد الصارم في حد ذاته دليل ينفي أن زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من أي واحدة منهن كان مرده إعجاب بجمال أو غير ذلك مما يفتري البعض! قال تعالى: [ يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا. وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما] الأحزاب (28-29). كان مفروضاً على بيت الوحي أن يعيش كأضعف بيت في الدنيا، وأن يتحمل المقيمات به كل ما يتحمله المهاجرون الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم، وعاشوا من بعد على ما تيسر...وكافأهن الله سبحانه على هذا البذل، بأن صرن أمهات المؤمنين، وهو لقب فيه من التكليف مثل ما فيه من التشريف....

 

أما الزاوية الثالثة التي أود أشراك حضارتكم معي في تحليلها هي قضية التعدد ذاتها! وأسأل القوم هل كانت هناك ديانة أرضية أو سماوية تنتهي – أصلاً -  عند تعدد الزوجات كفكرة أو سلوك اجتماعي؟ أو ترى فيه أدنى شائبة؟ لا بل إن أنبياء العهد القديم ألفوا التعدد دون حدود! والمذكور عن سليمان وحده أنه تزوج بثلاثمائة امرأة. وليس في المسيحية نهي عن التعدد كذلك، وأما عن ثقافة الطاعنين في الطهر الطاهر صلى الله عليه وسلم وممارساتهم فحدث ولا حرج، إن فلاسفة حضارة الطاعنين الذين يعتبرهم البعض مثله الأعلى هم لواطيوّن، شاذون جنسياً، يفخرون بشذوذهم، ويتباهون بمضاجعة الغلمان!

 

وقد كرهت امرأة سقراط رجلها وعافت عشرته لتعلقه بأحد تلاميذه، وقس على ذلك أفلاطون الذي تعرف على سقراط وهو صغير، وسقراط مشهور بهذا الداء ومتهم بإفساد الشباب. إن أرسطو واحد آخر – كان يزعم أن نسبة الشواذ في عهده تعادل نسبة الطبيعيين وقد جرت على لسانه عبارات لا أجرؤ على نقلها هنا, تقول مؤلفة "الجنس في التاريخ" أن معظم المجتمعات حرمت اللواط أو تجاهلته إلا اليونان، فإن البغاء المنكر كان شائعاً، ويمكن استئجار الغلمان! أليس مستفزاً أن ترث حضارة تلك المباذل الوضيعة المخزية، وتتغافل بخبث عن عللها، وتتناسى الدنس الذي تصبح فيه وتمشي، ثم يبسط بعض أهلها لسانهم بالأذى في سيرة أمير الأنبياء، ومعلم الأمم الطهر والعفاف؟! صدق الشاعر حين قال:

 

وطاولت الأرض السماء سفاهة                        وعيرت الشهب الحصا والجنادل!

وقال السما للشمس أنت ضئيلة                          وقال الدجى للصبح لونك حائل!

فيا موت زر إن الحياة ذميمة                            ويا نفس جدي إن دهرك هازل!

 

عمرو خالد لمجلة المرأة اليوم بتاريخ 1 أكتوبر 2005