إصرف المال.. قبل أن يصرفك

ينفع المال اذا كان عابداً للانسان, اما اذا أصبح معبوداً له فهو بلا شك يضر به, فالمال (خادم) أمين, ولكنه سيد (غدار), وهو يمر بين ايدي الناس مرور الكرام, وينتقل من واحد الى اخر, ومن شخص الى غيره, من دون ان يغير شيئاً أو ينفع في شيء الا اذا تصرف فيه صاحبه فباع واشترى, وعمر وبنى, وكسب وأعطى وحينئذ يصبح هذا المال نافعاً لان المال اساساً مجرد وسيلة ويفقد قيمته اذا أصبح هدفاً بحد ذاته.



وقد قيل: ان الانسان لا يتمكن من الاحتفاظ بيديه بأكثر من كرتين من ثلاث: "الصحة" و"المال" و"راجة البال", والناس يريدون هذه الثلاث معاً, يريدون الاحتفاظ بأموالهم, وصحتهم, وراحة بالهم, فلا يستطيعون.

ان الاكثرية يطلبون المال لاجل الصحة, وراحة البال, ولكنهم في النهاية يضحون براحة البال والصحة من اجل المال. ان من يريد الصحة والمال معاً من دون ان ينفق المال على صحته وسلامته لن ينعم براحة البال, ومن يريد المال وراحة البال, فلن ينعم بالصحة والسلامة, لان من يريد كل شيء فسوف يخسر كل شيء. ومن هنا فانه ينبغي لك ان تحدد علاقتك بالمال ونسبته اليك, ومن دون ان تفعل ذلك فلربما يكون "سيدك" القاتل لا "عبدك" المطيع.

تصور كأنك أصبحت في لحظة من اللحظات مليونيراً تملك ما لا تحتاج اليه, ثم انقلبت الاية عليك فأصبحت فقيراً معدماً تجر اذيال الخيبة والاسى, ماذا سيكون موقفك انئذ؟! ربما تنتحر, لانك خسرت المال ولكن السؤال هنا هو: لماذا كنت تريد المال؟ لقد كان المطلوب ان يكون المال لك, وليس ان تكون انت للمال.

ان تملك المال, لا ان يملكك المال, لماذا عندما خسرته اسيت عليه الى حد الموت كمداً أو انتحاراً؟ ان الناس يحلمون بالغنى والثراء, لانهم يظنون ان صاحب المال لابد ان يكون سعيداً, كأن المال هو كل شيء في هذه الحياة, وبه يكمن لصاحبه ان يشتري السعادة والنجاح, من دون جهد أو تعب, ويظنون ان الدراهم والدنانير تكسو الرجال المهابة والجلال, وانها تعطي الفصاحة لمن ليس فصيحاً, والسلاح لمن ليس شجاعاً, والجمال لمن ليس جميلاً.. وليس من شك ان للمال بعض التأثير في الحياة, فهو يعين صاحبه على تلبية بعض ماربه, ويساعده في تحقيق بعض رغباته, ولكن المال كغيره من الوسائل, فيه من المساوئ بمقدار ما فيه من المحاسن.

ومن مساوئه انه يستنفذ العمر من صاحبه, ويقلق راحته في المحافظة عليه ويحزنه اذا خسره, ومن لا يملك المال يعيش في أمل الحصول عليه, اما الذي يملك المال فهو يعيش الخوف من خسارته.

يقول الشاعر:

الم تر ان الفقر يرجى له الغنى.... وان الغنى يخشى عليه من الفقر

ومن هنا فان امتلاك المال كامتلاك اي شيء اخر في هذه الحياة, امر مؤقت, ليس لان اصحاب الاموال يمكن ان يخسروا اموالهم بين لحظة وأخرى, بدليل ان عشرات من الشركات الكبرى تعلن عن افلاسها كل.

لقد كان احدهم يؤمن بأن المال مشكلة, لذا حذر ابنه حينما اوصاه قائلاً: "لا تخبر اهلك وولدك كم عندك من المال, لان مالك اذا كان كثيراً, تمنى اهلك موتك, وان كان قليلاً هنت عليهم".

ومن مساوئ المال ان الكثيرين يقيمون صاحبه بقدار ما يمتلك من مال لا بمقدار ما يمتلك من الفضائل, حتى ان شاعرهم يقول:

ذريني للغنى اسعى فاني

رأيت الناس شرهم الفقير

وأبعدهم وأهونهم عليهم

وان امسى له حسب وفير

ويقصيه الندى وتزدريه

حليلته وينهره الصغير

ومن مساوئ المال ايضاً: انه يستخدم كتعويض عن العلم, والذكاء, فترى ان اصحابه يتنافسون فيما بينهم حتى يصبحوا اغنياء بحجم الدنياصورات, ولكن كما حدث للديناصور حيث فضل القوة على الذكاء فانقرض امام اول تحد, فانهم سرعان ما يفقدون حيلتهم, لانهم لم يتملكوا غير المال في هذه الحياة.

بل ان المال قد يشهر سلاحاً في وجه العلم, والاغنياء قد يقفون في وجه العلماء, حتى انك ترى كأن الفقر دائماً شيمة العلماء, وانه اول شرط للنبوغ في المجالات العلمية, وهو الذي يصقل النفس فيظهر جوهرها الصافي.

ان الفقر يكون احياناً دافعاً الى التقدم وحافزاً الى بذل الجهود, كما ان الخوف من الفقر يكون بالنسبة الى الاغنياء هو المانع لهم من العطاء.

ولذلك لا يجوز ان تخاف الفقر حين العطاء.

يقول الشاعر: من كان للخير مناعاً فليس له.... على الحقيقة اخوان وخلان

من جاد بالمال مال الناس قاطبة ....اليه والمال للانسان فتان

من يزرع الشر يحصد في عواقبه .....ندامة ولحصد الزرع ابان

حسب الفتى عقله خلا يعاشره .....اذا تحاماه اخوان وخلان ويقول اخر:

ارى الناس اخوان الكريم... وما ارى بخيلاً له في العالمين خليل

ان العبرة اذن ليست في ان تكون فقيراً او غنياً, انما العبرة ان تكون مالكاً للمال, وصاحب السلطة عليه, لا ان تكون محكوماً به, وله السلطة عليك.

ثم ان من يجمع الاموال ولا يصرفها سيكون حتماً محكوماً بها, لانه لا يعطي خوفاً من الفقر والعوز فهو "يفتقر" خوفاً من ان "يفتقر"

كما يقول الامام علي: "عجبت للشقي البخيل يتعجل الفقر الذي منه هرب", فمن يملكه المال يمنعه من ان يتصرف فيه, ومن يمتلك المال يعرف ان قيمته في صرفه, لا في الحفاظ عليه.

وفي الحقيقة فان الكرم والسخاء انما يعد فضيلة عند من يملك القليل من المال, اما اصحاب الثراء الفاحش فان العطاء واجب عليهم ومفروض منهم.

يقول الشاعر:

ليس العطاء من الفضول سماحةً حتى تجود, وما لديك قليل

ومن هنا فان "افضل الجود ما كان عن عسرة" كما يقول أحدهم . ويقول ايضاً: "جود الفقير افضل جود". فالغني والثروة انما هي نعمة بشرط الانفاق, والعطاء. كما يقول أخر: "لا فخر في المال الا مع الجود".

ويقول الشاعر: لم يعطلك الله ما اعطاك من نعم الا لتوسع من يرجوك تحساناً فلكي تملك لا بد من ان تصرفه, والا فلسوف يصرفك المال, ويستهلك عمرك وحياتك.

لان القيمة الاساسية للمال, انما تكمن في صرفه على حاجات صاحب المال, وافضل من ذلك: صرفه على الاخرين.

 

موقع الأسرة السعيدة