إختفاء نهر النيل عن مجراه

 

ماذا لو أخفقت تلك القدرة المجتمعة للنيلين الأزرق والأبيض على شق مجرى النهر الكبير بين السودان ومصر؟ وتحولت نعومة أظافرها الحانية لمخالب وحشية في معزوفة النهر الخالد التي هيأت لها الطبيعة جل تناغم المهارات والأدوات. فهل كانت المياه تستطيع الفكاك من مركز ثقل وجاذبية فرق المنسوب بين هضبة الحبشة وانحدار الوادي؟ وبذلك يفترض أن يخطئ نهر النيل خريطة ما وهبته الطبيعة لبلوغه المصب الشمالي واقترانه بالبحر المتوسط.وهكذا يمكن محاكاة الهدف باستخدام برامج الحاسب الآلي المتقدمة، من خلال تشكيل هيئة كنتورية خاصة لمناهضة فورة شباب النهر قرب منابعه وأسر قوته الجارفة بافتراض وجود موانع أرضية قادرة، بما توفره من إعاقة جيولوجية مؤقتة، على قهر طواعية تكوينات عصر البلايوسين الجيرية التي شكلت بجدارة مجرى النهر السطحي، حتى لا تجد الأخت الحبشية الكبرى لمنابع النيل الاستوائية بمياهها الموسمية وأخواتها الستة الأخريات بمياههم الدائمة طوال العام غير ملء هذا المنخفض الأرضي بين السودان ومصر، لتظهر في شمال إفريقيا أكبر بحيرة عذبة على سطح الأرض، تفوق في مساحتها بحيرة سوبيريور بأمريكا الشمالية وتقترب من مساحة بحر قزوين، حيث تختفي على إثرها أجزاء كبيرة من السودان وجنوبي مصر.


 

هنا قد تضل معزوفة الطبيعة علياء نهرها الخالد وتظهر في الظلمة مخالب حبشية تسهل عملية هرب النهر بحمله الثقيل من الماء مرتفع المنسوب ليضع دلتاه على مشارف البحر الأحمر، بخريطة شرقية متضرسة نوعاً ما تتخللها التواءات أرضية وكهوف مفتوحة، لتصريف المياه الزائدة من كأس هذه البحيرة الأفريقية العظمى. ولا شك أن تلك الظروف البيئية السائدة ستؤثر على أشكال الحياة البرية والبحرية، وتقرر مواضع الواحات وأماكن الراحة في الصحارى المحيطة، بما في ذلك تحديد مواقع قيام التجمعات البشرية، والتي تدفع الإنسان للتأقلم الأنثروبولوجي مع المكان تحت ضغط ذلك الأسر الافتراضي. وهنا يزداد يقين الطبيعة وتظل عوامل هبة النيل الفاعلة في بحثها عن نقاط ضعف جيولوجية أسفل صخور ذلك الحائل الشمالي التخيلي، حتى تغذى بغزارة هذا النهر الجوفي العظيم داخل الأراضي المصرية، وربما راجت الثروات الطبيعية وعلى رأسها البترول والذهب لتصبح مصر،رغم دلالة حجمها السكاني، من أهم مصدري خام البترول ومنتجاته في العالم، بل تظل الدولة الأعلى دخلاً في محيطها الإقليمي والدولي. ولا تنسى تأثير ذلك المسطح المائي العظيم على المناخ المحلى وزيادة الفرصة لسقوط الأمطار بكميات قد تناسب قيام بعض الأنشطة الاقتصادية ومنها الزراعة.
هنالك تستطيع الدولة المصرية تنفيذ مشروع ترعة عملاقة في الجنوب، بمحاكاة صناعية لمجرى النهر الحالي، ولا مانع من موافقة ومراقبة دول المنبع السبعة ودفع تكلفة الفاتورة المستحقة عن مرور المياه، رغم تعارض ذلك مع الأعراف والقوانين الدولية، بل كان مركز مصر المالي سيمكنها (إذا لزم الأمر) من أن تدفع قيمة الفاتورة مقدماً للحصول على حقها الحدودي من المياه. وذلك سيضع مصر في حزمة تنموية حدية لا تمنعها من استغلال وتحرير طاقة الصحراء في مشروعات السياحة الترفيهية والعلاجية وإقامة الصناعات المتوافقة مع البيئة، وكذلك المشروعات العملاقة لتوليد الطاقة وتحلية المياه وغيرها مثل ممر التنمية بالصحراء الغربية. وقد جرت حكومات دول المنبع وراء فكرة أحد الخبراء الأمريكيين، التي تقوم على الاستغلال اللوجستى لمخزون الجريان النهري من خلال بورصة تحكم إقليمية، باحتساب سعر المتر المكعب من مياه النهر بقيمة أدنى تكلفة للحصول عليه من تحلية مياه البحر (وليس قدر مقطوع من المال نظير الاستفادة من المياه الجارية)، على أن تسدد كل دولة قيمة الاستهلاك الزائد على حصتها من المياهبقسمة التساوي بين دول حوض النهر(المنبع والمصب)، مع إسقاط كافة الحقوق الهيدرولوجية والتاريخية لمصر وعمقها الإستراتيجي في السودان.
 
 
 
درب من الخيال، أن تسدد مصر نظير استهلاكها المائي أكثر من عشرين مليار دولار أمريكي سنويا قابلة للزيادة بمنظور سكاني. بل درست فكرة التحويل القسري لبعض روافد أودية الهضبة الأثيوبية فتصب بمنطقة البحيرات العظمى في وسط القارة الأفريقية، لتعزيز أكبر مخزون إستراتيجي من الماء العذب، البكر، يعرض لمن يشترى من خارج دول حوض نهر النيل. وتشير بعض المصادر التاريخية(2) أن الحملة البرتغالية على ميناء عدن في مطلع القرن السادس عشر الميلادي (سنة 1513)، للاستيلاء على جدة ومن بعدها مكة والمدينة المنورة ضمن خطة لاستعادة السيطرة على بيت المقدس، قد تمخضت عن تحالف البرتغال مع الحبشة من أجل اختفاء نهر النيل عن مجراه الطبيعي، وذلك عن طريق مخطط لشق قناة صناعية بالأودية الواطئة بين المناطق الجبلية لتحويل مجرى النهر ليصب شمالي الأراضي الحبشية بالبحر الأحمر، فيحولا بذلك دون وصول مياه النيل إلى مصر لكسر شوكة المماليك، حينذاك، وتحقيق الأغراض السياسية والاقتصادية الواسعة لتلك الحملة العسكرية الصليبية. هذا المشروع الذي توافق معرغبة نجاشي الحبشة الكامنة لحجز مياه النيل، والتي سرعان ما تلاشت أمام نفوذ الدولة العثمانية وقوتها العسكرية الحامية لمصر وشبه الجزيرة العربية.
لا شك أن إسرائيل قد ملأت فراغ دولة البرتغال وأباطرة الصليبيين لتؤدى ذلك الدور التاريخي الممتد. حيث طيرت في الآونة الأخيرة، فكرة مد الأنبوب البحري بين أثيوبيا وإسرائيل لنقل مياه النيل عبر أعماق البحر الأحمر وصولاً إلى أنسب موقع أمنى على خليج العقبة يسمح برفع المياه المجلوبة لتعمير وتنمية صحراء النقب، ذلك المشروع الروحي للديانة اليهودية وأثاره المبشرة باستقرار دولة إسرائيل العظمى. بل حاكت إسرائيل خطة سرية بوساطة أوغندية للاستفادة القسرية من مياه النيل في مقابل ضمان الاستقرار المائي بين دول الحوض، وهى أن تلتزم إسرائيل باستكمال مشروع قناة جونجلى في جنوب السودان لتوفير نحو 15 مليار متر مكعب من المياه سنوياً، تتقاسم نصفها كل من مصر والسودان شريطة أن تلتزم الدولتان بتوصيل النصف الآخر إلى إسرائيل في مقابل دفع الأخيرة 750 ألف مليون دولار أمريكي إلى دول منابع النيل، تقسم فيما بينها حسب الحجم السكاني لكل دولة. ونعود لتأكيد أن الطبيعة لم تكن تعرف الفواصل الجغرافية والتكتلات السياسية الحالية، وذلك المد الطاغي للولايات المتحدة (وربيبتها إسرائيل) بعد أن ظنت أنها ورثت الأرض وما عليها, وأنه في الغالب سيظل الماء قسمة بين دول حوض النيل الذي يجرى فيه مجرى الدم من العروق الأفريقية المشتركة.
مع اختفاء النهر، تتغير الجغرافية العسكرية للمنطقة برمتها وتؤول نظرية دولة إسرائيل في ميراثها المائي بين النيل والفرات إلى متحف التاريخ، بل قد تختفي إسرائيل ذاتها من الوجود. ومع ذلك لن تتأثر أهمية موقع مصر الاستراتيجية وستبقى منارتها الإقليمية والدولية. بل ستكون التغيرات المناخية المرتقبة على شمال مصر أقل في آثارها ويسهل مواجهتها. أما ضخ رؤوس الأموال متعددة الجنسيات بدول منابع النيل وعلى رأسها إثيوبيا فلا شك من تراجع مبرراتها، ومعها قد تتلاشى حدة حروب السدود (تانا بليز وغيره) بخفوت تأثيرها الإستراتيجي لاقتصارها على توليد الكهرباء والزراعة الحيوية للتصدير. وهنا يجب الاعتراف بآثار وفرة المياه الجارية على شخصية الفلاح المصري شديد التواكل والالتصاق بالنهر، والذي أكل أراضيه قبل أن يتعدى عليها سكان الحضر تحت ضغط الزيادة السكانية المستمرة. ويتطلب الحل لمواجهة تلك الأزمة القادمة، ترسيخ قواعد ترشيد استهلاك المياه والتعويل على إعادة استخدامها حسب النوعية، مع أقلمة مشروعات التنمية البشرية للموارد المائية المتاحة واستغلال فتوحات العلم في تأكيد رفاهة المعيشة مع ندرة المياه ومنها الزراعة حدية الماء والتربة، واستمطار السحب والتحكم في المناخ المحلى وغيرها من نتائج العلوم الحساسة. وبذلك يبقى أصل القول أن مصر هبة المصريين ليتلاشى صدى مقولة هيرودوت الشهيرة.

المصدر: عرب نت