أين وظيفته؟

 

أتدرون ما هو؟ إنه البيت! فللبيت أثر بعيد في تنشئة الأولاد وإحكام سيرتهم، بل لعله الأصل الأول في وراثة الدين واللغة، وقد قرّر علماء الأخلاق أن العنصرين الحاكمين في التربية والسلوك هما الوراثة والبيئة، وإن اختلفوا في أيهما أقوى وأنفذ، فكما يقول الشاعر العربي: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوّده أبوه! ولا أريد أن يفهم من ذلك أن الأب وحده هو غارس العادات في نفوس الأولاد! كلا فللأم أثرها في المواريث البدنية والمعنوية، وأثر الأبوين معاً هو الذي يرتقب في ذريتهما قال تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم) آل عمران:33-34، هذه الحقيقة مستقرة في إفهام الناس واعتقاداتهم منذ الأزل، فعندما جاءت السيدة مريم بوليدها نبي الله عيسى عليهما السلام من غير أب معروف- إعجازاً من الله تعالى وإظهاراً لقدرته، قيل لها- استنكاراً، وتساؤلاً- لمخالفة ما جاءت به هذه الحقيقة الراسخة: (يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً) مريم:28 كأنهم يقولون لها ما علمنا عن بيتك ولا أبيك وأمك إلا كل طهر، وما ننتظر منك بالتالي إلا كل طهر، فما هذا الذي جئتنا به يخالف هذه الحقيقة؟ ولقد كانت عليها السلام آية الطهر والتقوى.



 

إن البيوت مسؤولة عن نتاجها، ونحن نطالب الأم والأب معاً بالعناية التامة بحاضر الأولاد ومستقبلهم، لأن فقدان التربية معناه أن الأمة لا مستقبل لها، فيستحيل بناء مجتمع سليم على بيوت خربة، إن الإسلام طلب من الأب أن يصلي النوافل في بيته حتى يألف أبناؤه الركوع والسجود، كما طالب بأن يُتلى القرآن في البيت ليتعطّر جوه بمعاني الوحي، وفي الحديث: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً، أي أن البيت الذي لا يصلى فيه كالقبر الموحش، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت"، وقال عليه الصلاة والسلام: "أمّا صلاة الرجل في بيته فنور، فنوّروا بيوتكم·····"، والإسلام لم يجعل وظيفة البيت توفير المأكل والمشرب لسكانه وحسب، بل جعله محضناً للقيم والمثل العليا، من أين يتعلّم الولد الصدق إذا لم يتعلّمه من بيته؟ وأين يتدرّب على الوفاء والأمانة والرقة، إذ لم يتدرّب عليها بين حضن أبيه وأمه؟ إنه من غير المتوقّع لمن لم يربَّ على تحمّـل المسؤولية والرجولة، أن يكون رجلاً بمعنى الكلمة، يضحي بروحه وماله من أجل الحق الذي يعتنقه، إن عبدالله بن الزبير ابن أسماء وحفيد أبي بكر الصديق رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وقف موقفه المعروف ضد الحجاج بن يوسف الثقفي مدعوماً بتأييد أمه وتربيتها له، فلقد ربّته على الشجاعة واعتناق الحق وعدم التفريط فيه، والصبر عليه وعلى شدائده وإن كان في ذلك- ليس فقط موته- بل ذبحه وصلبه كما كان وحدث له·

 

لقد كان ومازال من أهداف الغزو الثقافي الذي مُنيت به أمتنا استبقاء المرأة المسلمة جاهلة لا تدري شيئاً عن نفسها أو العالم، وكذلك تعليقها- إذا تعلمت- بمحاقر الأمور وأنواع الزينة وأشكال المدنية الحديثة المزيفة والبعد بها عن اللباب والجد والارتقاء الفردي والجماعي.

 
إن بقاء مثل هذه المرأة على حالها التي هي عليها كفيل باستبقاء الأمة في الهاوية التي سقطت فيها أمداً لا يعلمه إلا الله، إن المرأة المسلمة كانت تعلم أنها معنية بكل آي القرآن، وأنها مثل الرجال في ذلك تدور حيث دار القرآن الكريم، فإذا أمر بكذا قالت سمعت وأطعت أفعل كذا، فإذا نزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة) التحريم:6، قالت نعم أقي نفسي وولدي وزوجي النار بدفعهم إلى الحلال وصرفهم عن الحرام، أقيهم النار بتوطينهم على المثل العليا وأخلاق الرجال·


وقد لاحظ المربّون أولو الغيرة أن الاستعمار الثقافي حريص على إنشاء أجيال فارغة لا تنطلق من مبدأ ولا تنتهي إلى غاية، يكفي أن تحرّكها الغرائز مع قليل أو كثير من المعارف النظرية التي لا تعلو بها همة ولا جبين، وللأسف فإن أغلب شعوب العالم الثالث الذي نحن منه، من هذا الصنف!
ما هي المثل العليا التي ترسم في نفوس أطفالنا وهم يدرجون نحو اليفاعة والشباب؟ ما هي النماذج التي تُعرض عليهم حتى تكون لهم فيها الأسوة الحسنة؟ إنني أعتقد أنها نماذج تحتاج إلى نماذج تتأدب بأدبها! إن خريجي هذه المدارس أو هذه المناظر لن يدركوا مجداً ولن يصعدوا قمة، وهيهات أن تسترد بهم أمتنا شيئاً من خسائرنا الحضارية وتخلّفنا الاقتصادي والاجتماعي.

 

إنني أرى أن دور البيت في تربية البنين والبنات لابد أن توضع له سياسة علمية وأدبية جديدة، تناسب التطوّرات المتلاحقة التي تعصف بنا صباح ومساء كل يوم، وأرى أنه لابد من تثقيف البنين والبنات وتدريبهم على الحياة الأسرية والعلاقات الاجتماعية المرتبطة بها قبل الزواج، فليس كل ذكر يصلح أن يكون زوجاً، وليس كل زوج يصلح لأن يكون أباً، كما أنه ليست كل أنثى تصلح لأن تكون زوجة، وليست كل زوجة تصلح أن تكون أماً! حدث ومازال يحدث شيء معين في تركيبة الناس النفسية يجعلهم غير قادرين على إقامة البيوت إقامة ناجحة ومتزنة، إن البيوت الآن تتهدّم بسرعة عجيبة، والقائم منها قائم على غير أسس متينة، ونسبة الطلاق تستفحل كل يوم عن سابقه، كأن بين الناس سباقاً في التطليق وخراب البيوت!.

 

لابد من وقفة صادقة وجادة، يشترك فيها أهل التخصص، والدين، والخبرة للتصدي لهذا الطوفان الماحق الذي يدمّر كل شيء·إن نسبة الطلاق بلغت في وطننا العربي تقريباً30% من إجمالي عدد الزيجات في العام الأول للزواج، وهذا رقم مرعب! وطبعا لا سبيل لبيت تهدّم أن توضح له وظيفته ودوره في الإسلام، لأن الأولى أن تزيل ركامه وتسعف المصابين فيه!.

 

هناك معالم ثلاثة ينبغي أن تتوافر في البيت المسلم ليؤدي رسالته ويحقّق وظيفته·· هي السكينة والمودة والتراحم، وأعني بالسكينة الاستقرار النفسي، فتكون الزوجة قرة عين لرجلها، لا يعدوها إلى أخرى، كما يكون الزوج قرة عين لامرأته لا تفكر في غيره، أما المودة فهي شعور متبادل بالحب يجعل العلاقة قائمة على الرضا والسعادة، وتجيء الرحمة التي هي نبع للرقة الدائمة ودماثة الأخلاق وشرف السيرة، البيت الذي يقوم على هذه الثلاثية سوف يتغلّب- بإذن الله - على عقبات كثيرة، ولن تكون منه إلا الذريات الجيدة السليمة، وهذا ما يرجوه الإسلام ويسعى إليه، فعلى هذه الذريات يقوم الإسلام وترتفع رايته وعلى غيرهم ينتكس كما هو مشاهد ومعلوم!.

 

عمرو خالد لمجلة المرأة اليوم بتاريخ 28 مايو 2005