أصحاب القلوب الرحيمة

مازال كلامنا مستمراً عن المجالات التي تستطيع المرأة المسلمة أن تبذل فيها لأمتها ودينها بشكل منتظم ثابت، دون إخلال بمهمتها الأساسية التي هي احتضان وتربية أبنائها على الإسلام، وتوفير السكنى للزوج الحبيب.



 

وقد ناقشت في مقال سابق موضوع الحياة الزوجية وما يعتريه من مشكلات تؤدي – في كثير من الأحيان- إلى الطلاق، ووضحت كيف أن المرأة المسلمة – المعنية بما نناقش - بتطبيقها قاعدة: ساعة واحدة في اليوم للأمة والدين.. قادرة – بإذن الله - على تخفيف حدة هذه المشكلة كماً و أثاراً.

 

واليوم بمشيئة الله تعالى ندعو المرأة المسلمة إلى تطبيق هذه القاعدة لحل مشكلة أخرى. مَنْ مِنَّا لا يحب الطبيخ؟ كلنا نحب الطبيخ، خصوصاً إذا كانت الطاهية هي المرأة المسلمة فإن لها نَفَساً في الطبيخ يجعل من الفسيخ شربات ما شاء الله تعالى، وليس هناك في حدود علمي امرأة تعتني بطعام أسرتها وتحب مطبخها كالمرأة المسلمة، لذا فهي تبذل فيه من وقتها الكثير، ولن أخرجها منه في مقال اليوم ولن أدعوها إلى نبذه، بل سأطلب منها أن تمكث فيه ساعة زيادة لله، وهي الساعة المتفق عليها في اليوم، ساعة تتحمل حرّها وتَنْصِبْ فيها قدميها تطبخ للفقراء والجوعى والمساكين، والمحتاجين المتعففين من أبناء أمتها، الذين لا يسألون الناس إلحافاً رغم ما يجدونه من شظف العيش.

 
إِنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم ربط بين الإطعام ودخول الجنة في حديثه الذي قال فيه: "أفشوا السلام،وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحامَ، وصلُّوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام"، وأمتنا مليئة بالجوعى الذين لا يجدون ما يسدُّون به رمقهم ولا رمق عيالهم، وما كان لذلك أن يحدث ولا يشيع بالشكل الذي شاع، والمسلمون والمسلمات يطبقون دينهم..أين أصحاب وصاحبات القلوب الرحيمة؟ أين الأبرار ذكوراً وإناثاً الذين قال الله فيهم: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا، عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا، يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)... أين هم وبالذات النساء المسلمات؟ وأين إحساسهن بأمتهن، وشفقتهن عليها، وعلى المحتاجين فيها، خصوصاً الجوعى؟

 

إن ساعة الطبيخ الزيادة التي أدعو إليها المرأة المسلمة لن يعدم ثوابها عند الله تعالى الذي يجازي على مثقال الذرة فهو القائل (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)، ولن أُخْرِجُها بها مِنْ بيتها حتى لا يَثُور الأزواج، ولن أُكلِّفُهَا فيها ما تجهل، أو ما لا تُحْسِن فعله... إنه عمل ليس هناك مَنْ هو أو هي أشطر منها فيه.. كل الموضوع بعض الإرهاق الذي ستؤجر عليه إن شاء الله، وبعض المال الزيادة، ولأنني أُحِبُ تذليل الصعوبات والمعوقات التي تُحِيل الأفكار المرجوة إلى كلام غير قابل للتطبيق، فإنني سأقف قليلاً على قضية: "بعض المال الزيادة " وأحاول تذليلها حتى تنطلق المرأة المسلمة مُنَفِذَةً الفكرة، وباذلة الساعة في المجال الذي نتحاور فيه.


كيف تستطيع المرأة المسلمة أن تحيد عنصر المال من معادلة البذل حتى يَسْهُلْ عليها؟
تستطيع ذلك - بإذن الله – بأحد الأساليب الآتية: أولها، أن تلغي في كل يوم مستقل عنصراً من العناصر المعتادة على المائدة، فمثلاً في اليوم الأول تَلْغي الفاكهة من الغداء، وتستبدل بقيمته طعاماً للفقراء، فقيمة كيلو ونصف كيلو من الموز، على كيلو ونصف كيلو من البرتقال قابلة للاستبدال بكيلو ونصف الكيلو من الأرز، على كيلو ونصف الكيلو من اللوبيا، على كيلو ونصف الكيلو خضار سلاطة، مع الوضع في الاعتبار السرور الذي أدخلته المرأة المسلمة على بيت مسلم، والذي ليس له ثواب إلا الجنة، وعدم انقطاع الدعاء بالخير لها، ومباركة الله لها في بيتها وعيالها، هذا أسلوب ..

 

هناك أسلوب آخر هو أسلوب: "صوموا تصحوا" فالمرأة المسلمة بمقدورها أن ترفع في بيتها شعار "اليوم صيام" وهي بذلك الأسلوب تُدَرِّبُ أبنائها على هذه الطاعة التي تباعد بين صاحبها والنار سبعين خريفاً لليوم الواحد، وفي الوقت نفسه تختزل وجبة الإفطار لتقدم قيمتها للفقراء والمحتاجين والجوعى طبقاً شهياً، فقيمة لبن الصباح، والشاي، وعلبة المربى، والزبد، والبيض، والجبن، مع العيش ليست قليلة، وبمقدورها أن تحل المشكلة..

 
وهناك أسلوب ثالث، وهو سهل وناجح أيضاً، فيه تحتفظ المرأة المسلمة بعدد الوجبات اليومية المعتادة، وفيه أيضاً تحتفظ بكل عناصر المائدة المعتادة، فالنشويات المعتادة من الأرز أو المكرونة موجودة، والخضار موجودة، والفاكهة موجودة، واللحوم موجودة، وكل شيء موجود.. كل ما في الموضوع أنه حدث استبدال نوعيات بأخرى أقل منها سعراً، فمثلاً المكرونة الإيطالية الشهيرة نستبدلها بمكرونة أخرى أقل تَكْلُفَة، والتفاح الأمريكي نستبدله بالإيراني، واللحم الضاني، باللحم البتلو، وهكذا، وبقيمة فارق الأسعار نطبخ وجبة ستطعم الفقراء والمحتاجين.. هذه هي بعض الأساليب التي خطرت على ذهني وأنا متأكد أن هناك أكثر منها، قابلاً للتطبيق، ومن شأنه أن يحيد معضلة المال من المعادلة.

تبقى نقطة مهمة لا أريد أن أنهي المقال دون ذكرها، وهي متعّلقة ببقايا الطعام، التي أدعو المرأة المسلمة المعنية إلى البذل لأمتها ودينها بأن تستبدل إلقاء بقايا الطعام في سلة المهملات بتفريغها في أكياس بلاستيكية (العمل نفسه بالضبط ولن يكلفها أي شيء زيادة) كل ما في الموضوع أنها بعد تفريغ الطعام في هذه الأكياس، تربطها جيداً ثم تنادي على حارس العقار أو البستاني أو السائق، أو سايس الجراج، أو عامل "المحارة" الذي يعمل عند الجيران، أو عامل النظافة أو من شابه، ونقول له: تفضّل.. تفضّل من أختك المسلمة... تفضّل من بيت أخيك المسلم... تفضّل فأنت لست وحدك... تفضّل فعيالك هم عيالنا... تفضّل فمشكلتك هي مشكلتنا.. تفضّل، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى".


أرأيتِ أختي المسلمة ما الذي من الممكن أن تفعله قاعدة: "ساعة واحدة في اليوم لأمتي وديني".. حتى لو كانت هذه الساعة ساعة طبيخ؟
وللحديث بقية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

كتبه الأستاذ عمرو خالد في مجلة المرأة اليوم بتاريخ:18/5/2004