آمن بمبدأ التسليم

 

بعض الاحيان تعترضنا أمور لابد أن نسلم لها , سفر حبيب طلاق لابد منه , بلاء وتمحيص , عداء من حاسدين , مرض مفاجئ ومزمن ...الخ , ونحن لا نستطيع الصدام مع القدر المحتوم , فأنا اريد وأنت تريد والله يفعل ما يريد ... إن مبدأ التسليم من اعظم المبادئ الاسلامية السامية , وهذا المبدأ سماه ديل كارنيغي في كتابه ( دع القلق وابدأ الحياة ) : التعاون مع الامر المحتوم , كما اعترف العلماء النفسانيون بفاعليته , يقول وليم جيمس (أب علم النفس الحديث) : (كن راغبا في كون الامور هكذا , لان القبول بما حدث هو الخطوة الاولى نحو التغلب على نتائج اية مصيبة ) , إن الصدام مع الامر المحتوم لن يغير شيئا بل سوف يؤذينا , كتب ابكتيتوس في فلسفته قبل تسعة عشر قرنا : (يوجد طريق واحد الى السعادة وهي أن تتوقف عن القلق بشأن الاشياء التي تقع وراء قوة إرادتنا) .


 

من جميل ما قرأت في التسليم قصة شلبي الرجّال التي يرويها الامام حسن البنا – رحمه الله- في مذكراته , يقول البنا إنه زاره مع صحبة له فوجد بيته نظيفا ومنيرا , وشربوا عنده القهوة والشراب البارد , وكانت زيارة لطيفة , وفي نهاية الزيارة قال الشيخ شلبي في إبتسامة لطيفة ورقيقة : (إن شاء الله غدا تزورونني مبكرين لندفن روحية) , وكانت روحية وحيدته وقد رزقها بعد أحد عشر سنة من زواجه , وكان بها شغفا مولعا حتى سماها (روحية) لما لها من مكانة عنده بمنزلة الروح , فحزن الموجودون فقالوا : متى ماتت ؟ ولم لم تخبرنا ؟ فأخبرهم أنها ماتت اليوم , وعلل وفاة كريمته بغيرة الله على قلبه , فإن الله يغار على قلوب عباده الصالحين , واستشهد بإبراهيم الذي تعلق قلبه بإسماعيل فامر بذبحه , وبيعقوب الذي شغف بحب يوسف ففقده , وساق قصة الفضيل بن عياض مع إبنته حين سألته : هل تحبني , فأجاب : نعم , فقالت : ما ظننت إنك تكذب , لقد ظننت إنك بحالك هذه مع الله , لاتحب معه احد فبكى الرجل , وقال : يا مولاي ! حتى الصغار قد اكتشفوا رياء عبدك الفضيل , فانقلب الحزن الى موعظة إيمانية ودرس تطبيقي عملي . قال البنا : (ودفنا روحية ولم نسمع صوت نائحة , ولم ترتفع حنجرة بكلمة نابية , ولم نر إلا مظاهر الصبر والتسليم لله تعالى الكبير) .
والمسلّلم بالأمور هو الصابر الحقيقي , وهو من الذين قال فيهم المولى تبارك وتعالى : (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) (الزمر/10) , ( وما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمر الله : (إنا لله وإنا إليه راجعون), اللهم أجرني في مصيبتي وأخلفني خيرا منها , إلا أجره الله في مصيبته وأخلف الله له خيرا منها ) , ورواية الحديث أم سلمة – رضي الله عنها – التي سمعت هذه الكلمات عند موت ابي سلمة فكانت كبرى المصائب عندها , فدعت بدعاء النبي هذا فآجرها الله بأن ابدلها خيرا منه وهو رسول الله (ص) وأجر المؤمن عند البلاء عظيم , أنظر أجره في كتب الحديث .
وهنا معلومة عظيمة أحب أن أضيفها كذلك من مخففات القلق , وهي أن العاهات والبلائات سبب النجاح والتفوق , فمن صبر ظفر , وفي الآية الكريمة : (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) (يوسف/90), وفي الحديث النبوي الشريف : (النصر مع الصبر , والفرج مع الكرب , وإن مع العسر يسرا), وهذه القاعدة سنة كونية تنطبق على الانسان المسلم والكافر سواء , فلولا البلاء لكان يوسف عليه السلام مدللا في حضن أبيه , لكنه صار العزيز في مصر – اي رئيس الوزراء آنذاك- بعد البلاء , وكذا موسى -عليه السلام- وقل مثل ذلك في كل نبي على مر التاريخ .
في كتابه دع القلق يقول يقول ديل كارينغي : (كلما تعمقت في دراسة مجرى حياة البارزين من الرجال , ازداد اقتناعي بأن نجاحهم يعود الى إصابتهم بعاهات دفعتهم الى المساعي العظيمة , والمكافآت العظيمة , ومثلما قال وليم جيس : عاهاتنا تساعدنا الى حد غير متوقع) .
بغض النظر عن اعتقاد أو توجه الفرد فإن معظم العظماء في أي مجال , برزوا من خلال عاهة أو عجز أو بلاء أو محن , ربما لولا البلاء لما كتب ميلتن روائعه الشعرية , وما ألف بيتهوفن الأصم سيمفونياته الموسيقية , وما حكم نيلسون مانديلا السجين المستعمر الابيض, لكن الصفة التي جمعتهم في قالب واحد أنهم كانوا قمة في التسليم .
    المصدر: شباب عالنت