آخر دين

 

آخر دين يُرْمَي بالعنصرية هو الإسلام، والله ما أقول هذه الحقيقة تعصباً لديني الذي أنتمي إليه إنما أقولها حقيقة مجردة لي عليها ألف دليل ودليل، إن الدين الذي يأمر بالإخاء والمحبة ويرسي الإيثار ويدعو إلى الوحدة ويعلي من شأن التعاون والتناصر والتراحم، ويشرع التكافل ولا يميز بين الطبقات – حرام أن يُرْمي بالعنصرية! إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول دبر كل صلاة:



 

"اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه أنا شهيد أنك الله وحدك لا شريك لك". "اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه أنا شهيد أن محمداً عبدك ورسولك". "اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه أنا شهيد أن العباد كلهم أخوة". فجعل إقرار مبدأ "الأخوة" بعد الشهادة لله تعالى بالوحدانية، ولمحمد صلي الله عليه وسلم بالعبودية والرسالة. وقوله: "إن العباد كلهم إخوة" يحتمل معنيين وقد أورد العلماء المعنيين وكلاهما صحيح:

الأول: أن العباد هنا هم البشر كافة، فهم أخوة بعضهم لبعض، بحكم البنوة لآدم، والعبودية لله سبحانه. وهذه أخوة إنسانية عامة. وقد وصف الله تعالي عدداً من الرسل في القرآن بأنهم إخوة لأقوامهم رغم كفرهم برسالتهم، لاشتراكهم معهم في الجنس والأصل، كما في قوله تعالي: "وإلى عاد أخاهم هوداً" الأعراف65. ، "وإلي ثمود أخاهم صالحا" الأعراف 73. ، "وإلي مدين أخاهم شعيبا" الأعراف85.

الثاني: أن العباد هنا هم المسلمون خاصة، بحكم اشتراكهم في ملة واحدة، تضمهم عقيدة واحدة هي التوحيد، و قبلة واحدة هي الكعبة البيت الحرام، وكتاب واحد هو القرآن، ورسول واحد هو محمد عليه الصلاة والسلام، ومنهج واحد هو شريعة الإسلام. وهذه أخوة دينية خاصة، لا تنافي الأولى، إذ لا تنافي بين الخاص والعام. كل ما في الأمر أن لهذه الأخوة حقوقاً أكثر بمقتضى وحدة العقيدة والشريعة، والفكر والسلوك.

ومن العناصر الأساسية لهذه الأخوة التي أمر بها الإسلام : المحبة، وأدنى درجات المحبة سلامة الصدور من الحسد والبغضاء والأحقاد وأسباب العداوة والشحناء. والقرآن يعتبر العداوة والبغضاء عقوبة قدرية يعاقب الله بها من يكفرون برسالاته، وينحرفون عن آياته، كما قال تعالى:" ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون"المائدة14. 

ويتحدث القرآن عن الخَمْر والميسر وهما من الكبائر الموبقة في نظر الإسلام، فيجعل العلة الأولى في تحريمهما، هي إيقاع العداوة والبغضاء في المجتمع، رغم ما لهما من مضار ومساويء أخرى لا تخفى، فيقول تعالى:" إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة" المائدة91. وقد جاء في الحديث تسمية هذه الآفات:" داء الأمم". كما أن الحديث سماها: الحالقة، حالقة الدين لا حالقة الشعر، وذلك لحظرها على الجماعة وتماسكها المادي والمعنوي.

وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام:" دبّ إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء. والبغضاء هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين" رواه البزار ،" وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة" رواه أبو داود وصححه عن أبي الدرداء. وفي رواية :" لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين". ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس، فيُغْفر لكل عبد لا يُشرك بالله شيئاً، إلا رجل كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا" رواه مسلم عن أبي هريرة.

ويقول: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيُعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" رواه الشيخان عن أبي أيوب. ويقول: "ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً: رجل أمّ قوماً وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان" أي متقاطعان رواه ابن ماجة.

إن جو البغضاء والشحناء جو تُروج فيه كل بضائع الشيطان من سوء الظن، والتجسس، والغيبة والنميمة، وقول الزور، والسب واللعن، وقد ينتهي إلى أن يقاتل الأخوة بعضهم بعضاً. وهذا هو الخطر، الذي حذر منه النبي الكريم، واعتبره من أثر الجاهلية، وقال: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" رواه الشيخان.

لهذا كان إصلاح ذات البين من أفضل الأعمال والقربات إلى الله  قال تعالى: "إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون" الحجرات10. كما قال تعالى: "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين"الأنفال1. وكما قال تعالى: "لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً"النساء114.

ولأهمية إصلاح ذات البين، رخّص النبي صلى الله عليه وسلم لمن يقوم بالإصلاح ألا يلتزم الصدق الكامل في وصف موقف كل طرف من الآخر، فنقل بعض العبارات كما قيلت، قد يؤجج نار الخصومة ولا يطفئها، فلا بأس بشيء من التزيين، وشيء من المعاريض، وفي هذا جاء الحديث الصحيح: "ليس بكذّاب من أصلح بين اثنين فقال خيرا، أو أنمى خيراً"، وأعلى من هذه الدرجة – درجة سلامة الصدور من الأحقاد والبغضاء – الدرجة التي عبّر عنها الحديث الصحيح الذي يقول:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" متفق عليه عن أنس. ومقتضى ذلك: أن يكره له ما يكره لنفسه. فإذا كان يحب لنفسه رغد العيش أحب ذلك لسائر الناس. وإذا كان يحب أن يوفق في حياته الزوجية، أحب للناس أن يكونوا سعداء موفقين. وإذا كان يحب أن يكون أولاده نجباء، أحب ذلك لغيره. وإذا كان لا يحب أن يذكره أحد بسوء في حضرته أو غيبته، كان موجب الإيمان ألا يحب ذلك للناس أجمعين. فهو يُنْزل إخوانه منزلة نفسه في كل ما يحب ويكره.

وثمة درجة أعلى من هذه وتلك: هي درجة الإيثار. ومعنى الإيثار: أن يقدّم أخاه على نفسه في كل ما يحب، فهو يجوع ليشبع أخوه، ويظمأ ليرتوي، ويسهر لينام، ويجهد ليرتاح، ويعرض صدره للرصاص ليفدي أخاه. وقد عرض لنا القرآن صورة وضيئة للمجتمع المسلم في المدينة، يتجلى فيها معنى الإيثار والبذل من غير شح ولا بخل. قال تعالى:" والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون"الحشر9.

وفي السنة نجد صورة أخرى تتمثل فيما رواه البخاري: أن سعد بن الربيع عرض على عبد الرحمن بن عوف – وقد آخى النبي بينهما – أن يتنازل عن شطر ماله، وعن أحد داريه، وإحدى زوجتيه، يطلقها ليتزوجها هو. فقال ابن عوف لسعد: بارك الله لك في أهلك، وبارك الله لك في دارك، وبارك لك في مالك، إنما أنا امرؤ تاجر، فدلوني على السوق! إيثار نادر قلّ أن تعرف الدنيا له نظيراً، يقابله تعفف كريم نبيل، وكلاهما يعطينا ملمحاً من ملامح المجتمع المسلم الذي أقامه الرسول الكريم في المدينة، والذي نرنو إلى مثله دائما، باعتباره مثلاً أعلى للمجتمعات.

إن الإسلام يحرص كل الحرص على أن تسود المحبة والأخوة بين الناس جميعاً: بين الشعوب بعضها وبعض، لا يفرق بينهما اختلاف عنصر أو لون أو لغة أو إقليم. وبين الطبقات بعضها وبعض، فلا مجال لصراع أو حقد، وإن تفاوتوا في الثروة والمنزلة، وفضّل الله بعضهم على بعض في الرزق. وبين الحكام والمحكومين، فلا محل لاستعلاء حاكم على محكوم، فإن الحاكم هو وكيل الأمة بل أجيرها، ولا لبغض محكوم لحاكم ما دام يأخذ حقه، كما يؤدي واجبه، وفي الحديث:" خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم، ويصلون عليكم" رواه مسلم عن عوف بن مالك. أي تدعون لهم، ويدعون لكم، إن هذه هي بعض ملامح الإخاء في الدين الذي يرميه البعض بالعنصرية؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 

عمرو خالد لأسرتي بتاريخ يناير 2005